Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

يعشن على هذه العمليّات المتكرّرة من فتح أعضاء المرأة وإغلاقها في مناسبات متعدّدة ما بين زواج وولادة وطلاق وزواج مرّة أخرى».

وتربط نظريّة حديثة نشوء كل من ختان الذكور والإناث بعنصر جغرافي واقتصادي. تقول هذه النظريّة بأنه قَبل 6000 سنة حدثت تقلبات مناخيّة قاسيّة في المناطق التي يطلق عليها اسم «صحرآسيا» الممتدة من شمال إفريقيا إلى أواسط آسيا. ومن جرّاء هذه التقلبات حل «النظام الأبوي» العنيف محل «النظام الأمي» المسالم الديمقراطي الذي كانت تسيطر عليه الأم. وهذه المجتمعات التي يسيطر عليها «النظام الأبوي» تنظر نظرة قلقة للجنس ويسيطر فيها الرجل على المرأة ويحتل فيها الإله دوراً كبيراً.

وتقول هذه النظريّة أنه في زمن المجاعة يصبح اهتمام الأهل بالطفل أضعف ورد فعلهم لصراخه أقل. والأم في بحثها المتواصل عن الطعام القليل لا تستطيع أن تعطيه الحنان الضروري، خاصّة إذا كانت هي ذاتها محرومة من الحنان في طفولتها. وكما مع القردة الأم التي ربّيت دون أم، فإنها تصبح أقل اعتناءاً بأطفالها. وهكذا تنمو القساوة في العلاقة بين الأهل وأطفالهم. وبعدها تنشأ عند المجتمع نظرة غاضبة وقلقة نحو الأم. فتتدخّل المعتقدات والقوانين والعادات والطقوس لكي تسن عدد من المحرّمات بخصوص المرأة. ويؤدّي إضعاف العلاقة بين الأم وابنها إلى إضعاف العلاقة بين المرأة والرجل. وهذا بدوره يؤدّي إلى تطوّر العنف والساديّة التي تدور حول الأعضاء الجنسيّة، ومن بينها عادة ختان الذكور والإناث. وبعد تغلغل هذه الطباع في المجتمع تصبح صفة مميّزة يحملها أفراده في هجراتهم وتصيب العدوى غيرهم من الشعوب. وحتى إن تغيّرت الظروف الجغرافيّة التي كانت الدافع الأوّل لنشوء مثل هذه الطباع، فإن هذه الأخيرة تستمد قوّتها من كونها أصبحت تشريعاً وعادة. ولكي يتم إنهاء الختان لا بد من تغيير النظام الاجتماعي الأبوي العنيف الذي يصاحبه.

وتلاحظ هذه النظريّة أن بؤرة ختان الذكور والإناث نشأت في المناطق الشرقيّة الشماليّة لإفريقيا أو في الجزيرة العربيّة ومنها انتقلت إلى مناطق أخرى مع الهجرات البشريّة وخاصّة الفتوحات الإسلاميّة. وموازياً لهذه المنطقة، هناك مناطق جغرافيّة أخرى مستقلة مارس سكانها كل من ختان الذكور والإناث، مثل القبائل الأستراليّة وبعض قبائل الأمريكتين. وفي هذه المناطق أيضاً رافق الختان تقلبات مناخيّة قاسيّة.

وإن كان للعامل الاقتصادي دور في نشوء الختان، فله أيضاً دور في تحوّله من طقس ديني إلى طقس طبّي. فهناك كثير من اليهود الذين يفضّلون إجراء عمليّة الختان في المستشفى على يد طبيب في الأيّام الأولى بعد ولادة الطفل مخالفين في ذلك التعاليم الدينيّة التي تفرض إجراء الختان ضمن طقس ديني وفي اليوم الثامن. وهذا التصرّف نابع من كون الختان في المستشفى أقل كلفة من الختان الديني الذي يتطلب إحضار خاتن من مدينة أخرى وتعويضه ماليّاً حسب المسافة التي يقطعها. ويلاحظ هذا التحوّل فيما يخص ختان الذكور والإناث في المجتمعات الأخرى. فالختان الطقسي تتبعه احتفالات يشارك فيها الكثيرون وتكلف مصاريف ليس في مقدور كل واحد تحمّلها. لذا تم التخلي عن المظاهر الخارجيّة مع الإبقاء على الختان الذي أصبح يجرى في المستشفى فور الولادة. ويشار إلى أن الختان الفرعوني حل محل حزام العفة المكلف والذي يتطلب معرفة فنّية، كما حل محل نظام الحريم الذي لم يعد من السهل تأمين الخصيان له وتحمّل تكاليفه.

وتغيير الأوضاع الاقتصادية من أهم العوامل التي يمكن من خلالها القضاء على ختان الإناث. فالمرأة التي لها عشرة أطفال عليها أن تسعى لإطعامهم. وسوف تسعى لتزويج بناتها إذا كان الزواج هو الوسيلة الوحيدة للتخلص من أعبائهن. وإذا ما فرض الرجال الختان كشرط للزواج، فإن المرأة سوف تخضع لشروطهم. أمّا إذا كانت للبنات إمكانيّة للعيش اقتصاديّاً دون زواج، فإن أمّهن لن تقبل بشروط الرجال. ولذا يجب إعطاء النساء والفتيات وسيلة اقتصادية للعيش حتى لا يتمكن الرجال من فرض شروطهم عليهن. وعلى الدول الغربيّة التي تكافح للقضاء على ختان الإناث في الدول الإفريقيّة تخصيص جزء من أموال التنمية لصالح النساء الإفريقيّات لتأمين استقلالهن الاقتصادي.

2) الختان مصدر ربح للأطبّاء والخاتنين وغيرهم

إن الهدف الأوّل والوحيد للطبيب من إجراء الختان قد لا يكون دائماً الحصول على ربح مادّي. ولكن من المؤكد أن الطبيب الأمريكي الذي يرفض إجراءه يتعرّض لخسارة ماليّة قدّرتها مؤلفة أمريكيّة بـ 10000 دولار سنوياً. وهذا المبلغ الذي يخسره الطبيب الرافض سوف ينتهي إلى جيب طبيب منافس آخر. ولذا يمكن اعتبار رفض ذاك الطبيب إجراء الختان من الأعمال البطوليّة حقاً.

ويتضح دور ربح الطبيب في معدّل الختان ممّا حدث في إنكلترا. ففي بداية الحرب العالميّة الثانية كان معدّل الختان في الطبقات المرفهة هناك يصل إلى 80%، وفي الطبقة العاملة إلى 50%. وكان الأطبّاء هناك يتذرّعون بمكافحة العادة السرّية. ولكن بعدما أخذ هذا البلد بنظام التأمين الاجتماعي انخفض معدّله تدريجيّاً إلى أن وصل إلى ما يقارب الصفر في السبعينات. لقد فقد الأطبّاء الإنكليز السبب الحقيقي الذي كانوا من أجله يجرون الختان: أي الربح المالي، إذ لم يعد هناك فرق في معاشهم، أجروا العمليّة أم لم يجروها.

ويثير معارضو ختان الإناث نفس المشكلة. فهم يرون أن الربح عامل انتشار لهذه العادة في الدول الإفريقيّة. فكثير من الخاتنات تعتمد على هذه العمليّة كوسيلة لكسب لقمة العيش. وحتى تنجح حملة مكافحة ختان الإناث، تبيّن أنه من الضروري الاعتناء بالخاتنات وتعليمهن مهنة يكسبن منها لقمة العيش حتى يتخلين عن إجراء ختان الإناث.

3) الختان وتجارة الآلات الطبّية

عندما أخذ الأطباء بإجراء الختان كان لليهود السبق في اختراع آلات تحل محل السكين والمقص. وقد ساعدت هذه الآلات في تثبيت عادة الختان إذ إن من يشتريها لا بد له من أن يستعملها لتغطية تكاليفها. وقد قامت الشركة الأمريكيّة المصنّعة لملزم «جومكو» بالدعاية له في الدول التي لا تمارس الختان مثل ألمانيا الغربيّة والشرقيّة. ففتحت مركزاً للتوزيع في مدينة «اولم» الألمانيّة عام 1957. وقد تم ختان 150 طفلاً في مستشفى دون تخدير بواسطة هذا الملزم في مدينة «دارمشتادت» عام 1959 ضمن حملة للترويج له. وفي عام 1968، كان هناك اتفاق لختان 2832 طفلاً في ألمانيا الشرقيّة بواسطة هذا الملزم أملاً في انتشاره في هذا البلد. إلاّ أن هذه الحملة توقّفت بعد نقد الأوساط الطبّية الألمانيّة للختان في أوائل السبعينات. وقد انتقلت الشركة إلى محاولة ختان أطفال الدانمارك فتم ختان 18 طفلاً عام 1973 بهذا الملزم ونشرت دعايات له في المجلاّت الطبّية الدانمركيّة. ولكن كان هناك رفض شعبي لمثل هذه الإجراءات.

4) الختان وتجارة الغلفة

كانت الغلفة وما زالت تعتبر عند البعض عضواً نجساً. وقد تعبّد البعض بها أو أستعملها لمداواة العقم. ومنهم من وضعها في فم طفل قَبل ختانه لتقيه هجوم الأرواح الشرّيرة. ومنهم من دفنها مع الخاتن لتضمن ثوابه في الآخرة. وبجانب هذه الاعتقادات الخرافيّة، هناك من رأى في الغلفة سلعة تجاريّة. فقد أصبحت للغلفة استعمالات صناعيّة وطبّية. فهي تدخل في صنع بعض مستحضرات التجميل كما تستعمل في إجراء التجارب الطبّية وفي ترقيع المحروقين. فكلما كان الجلد حسّاساً وخلاياه قادرة على التمدّد، كلما كان تكثيره أسهل وأفضل. وهاتان الميّزتان تتواجدان في الغلفة.

منذ الثمانينات، بدأت بعض المستشفيات الخاصّة بتزويد الشركات والمعامل الطبّية والدوائيّة بغلفات جنت من ورائها أرباحاً طائلة. فقد تباهت شركة عام 1996 بأن رأس مالها يقدّر بـ 663.9 مليون دولار. وفي مقال صدر عام 1992، قدّرت المعامل الطبّية أن تجارة زراعة الجلد ستصل إلى مبالغ تراوح المليار والنصف إلى ملياري دولار سنوياً في نهاية التسعينات.

وبما أنه ليس لعمليّة الختان أسباب طبّية، بل رغبة الطبيب في تحقيق ربح من ورائها، فإن معارضي ختان الذكور يرون في تجارة الغلفة مشكلة جديدة تعرقل حملتهم. فما دام هناك طلب على الغلفة، فلا بد من توفيرها بختان أكبر قدر ممكن من الأطفال. فأخذ المعارضون يحذّرون الأهل من أن المستشفيات والأطبّاء الذين يجرون عمليّة الختان يسرقون غلف أطفالهم ليبيعوها. فأحد تلك المستشفيات في الولايات المتحدة يبيع الغلفة بـ 35 دولار.

5) الختان والتأمين

حاول معارضو ختان الذكور لفت نظر شركات التأمين إلى أن عمليّة الختان ليست ضروريّة طبّيا، حتى لا تقوم بدفع تكاليفهاً. إلاّ أن لتلك الشركات منطق آخر. فقد ردّت شركة تأمين تقول:

«نحن على علم بأنه لا حاجة طبّية لهذه العمليّة [...] ونحن نشجّع مشتركينا على عدم إجرائها. إلاّ أن إجراءها لا يكلفنا شيئاً بسبب طبيعة العقد مع المستشفيات. فنحن ندفع تكلفة يوميّة مهما كانت الخدمة المقدّمة. ولذلك اخترنا الاستمرار في دفع العمليّة لأننا نشعر بأن عدداً كبيراً من مشتركينا يريدون ذلك. وإذا رفضنا دفعها فقد يكون رد فعل مشتركينا سلبيّاً [...]. لذلك قرّرنا الاستمرار في تقديم هذه الخدمة لهم. إن الخلفيّة التي تدعم الختان ثقافيّة واجتماعيّة وليست طبّية. ونحن نستجيب لطلب اجتماعي وثقافي بدفعنا هذه العمليّة».

ونشير هنا إلى أن بعض شركات التأمين تخلت عن دفع تكاليف الختان. فقد أرسلت إحدى تلك الشركات واسمها Pennsylvania Blue Shield في أوّل يناير 1987 رسالة لمشتركيها تعلمهم فيها أنها لن تغطي من الآن فصاعداً تكاليف عمليّة ختان حديثي الولادة بناءاً على «أبحاث طبّية تفيد بأن عمليّة الختان ليس لها فائدة طبّية». وقد طالبت تلك الشركات من الأكاديميّة الأمريكيّة لطب الأطفال وغيرها من الهيئات الطبّية أخذ موقف من الختان لتعتمد عليه في قرارها.

هذا ويلجأ الأطبّاء أحياناً للغش لتخفيف الأعباء عن الأهل. فقد أخبرني أستاذ جامعي مسلم مصري في لندن بأنه ختن أطفاله في المستشفى. وعندما سألته هل دفع تكاليف العمليّة أجاب بأن الطبيب كان متعاوناً معه فكتب أن سبب الختان كان ضيق الغلفة. وهذا ما يجري أيضاً في فرنسا حيث لا يدفع التأمين الاجتماعي إلاّ العمليّات الضروريّة طبّياً.

6) الختان وسلاح المال

يتطلب تغيير المجتمع سواعداً ومالاً. وهناك تعبير فرنسي يقول: «المال عصب الحرب». ومثل سويسري يضيف: «من يدفع يأمر».

لقد أصبح الغرب والمنظمات الدوليّة التي تدور في فلكه مصدر رئيسي لتمويل منظمّات مكافحة ختان الإناث. وبما أن الغرب يرفض الدخول في جدل حول ختان الذكور، فإن تلك المنظمات تتفادى هذا الموضوع. ويلجأ الغرب أحياناً إلى التهديد بقطع المعونات الاقتصادية عن الدول التي لا تناهض ختان الإناث. وتشير منظمة «أرض النساء» الألمانيّة بأن أحد أهدافها حجب المعونات عن تلك الدول.

وسلاح المال ليس حكراً على الحكومات. فمؤيّدو ختان الذكور يلوّحون بالملاحقات القضائيّة لكي يستمر الأطبّاء في إجراء ختان الذكور وشركات التأمين في تغطية تكلفة هذه العمليّة. فقد كتب الطبيب «وايزفيل»، صاحب نظريّة حماية الختان من التهابات المسالك البوليّة، مقالاً يقول فيه بأنه إذا تم وضع صبي في عمليّة غسل كلى بسبب التهاب المسالك البوليّة لعدم ختانه، فإن شركات التأمين التي ترفض دفع تكاليف الختان سوف تعتبر مسؤولة عن ذلك.

هذا وتشجّع الجمعيّات المعارضة للختان رفع قضايا ضد الأطبّاء الذين يجرون ختان الذكور. ويشير محامي أمريكي دافع في قضايا ختان بأن تلك القضايا سلاح فعّال. فهي وسيلة لتثقيف الأطبّاء وردع المستشفيات وتنبيه شركات التأمين بأن الختان عمليّة خطيرة وغير ضروريّة. وهي وسيلة للربح لكل من المحامي وموكله. وكل قضيّة يتم كسبها يعني مزيد من ضغط شركات التأمين على المستشفيات والأطبّاء للكف عن هذه العمليّة المكلفة قضائيّاً. أضف إلى ذلك أن هذه القضايا سوف تثير انتباه العامّة وتثقّفهم.

الفصل الثامن
الختان والدوافع السياسيّة

1) اليهود والختان والصراع السياسي

أ) ختان الذكور والاتهام بمعاداة الساميّة

يعتبر رجال الدين اليهود ختان الذكور جزءاً هامّاً من معتقدهم الديني وعلامة لهويّتهم كما أوضحنا سابقاً. ومع تصاعد الحملة الحاليّة ضد ختان الذكور، اعتبر رجال الدين اليهود هذه الحملة تعدّ عليهم وعلى معتقداتهم، متهمين المعارضين غير اليهود بـ»بمعاداة الساميّة»، والمعارضين اليهود «ببغض الذات».

وقد أثر الخوف من الاتهام بمعاداة الساميّة في الاصطلاحات المستعملة في كتابات المنظمات الدوليّة الحكوميّة وغير الحكوميّة. فقد تخلت هذه المنظمات عن استعمال تعبير «ختان الإناث» واستبدلته بعبارة «بتر الأعضاء التناسليّة للإناث» حتى لا يكون هناك خلط بينه وبين «ختان الذكور» الذي يمارسه اليهود.

والخوف من الاتهام بمعاداة الساميّة أدّى إلى سكوت المشرّع الغربي والمنظمات الحكوميّة وغير الحكوميّة (مع بعض الاستثناءات) عن «ختان الذكور» كما سنرى في الجزء الخاص بالجدل القانوني. وقد أستبعِدت مناقشة «ختان الذكور» عند عرض «ختان الإناث» دون أن يبيّن من استبعدوه سبب التفريق بين الختانين.

وقد قاد الخوف من اتهامات اليهود بعض الحركات في الولايات المتحدة بالاكتفاء بالكلام عن «الختان الروتيني» الذي يتم في المستشفيات بعد الولادة لحجج طبّية ووقائيّة، مستثنيين الختان الديني وخاصّة الختان اليهودي. وقد انتقد هذا الموقف اليهود المعادون للختان لأنه يحرم الأطفال اليهود من الحماية.

ب) اتهام اليهود بنشر ختان الذكور وأهدافهم

لقد أثر اليهود في انتشار ختان الذكور عند المسلمين والمسيحيّين كما أوضحنا سابقاً. وتشير مؤلفة أمريكيّة أن الأصل التوراتي للختان جعل غير اليهود يتقبّلون هذه العادة. ولو مارس اليهود ختان الإناث كما يمارسون ختان الذكور، لكان ختان الإناث منتشراً مثله مثل ختان الذكور.

لقد بلور اليهود دفاعهم عن الختان من خلال ابتكارهم الآلات الطبّية لإجرائه والتي حاولوا الدعاية لها في الدول التي لا تمارسه. كما ساهموا مساهمة كبيرة في إيجاد التبريرات ذات الطابع العلمي للختان. وقد ساعدتهم في ذلك النسبة العالية للأطبّاء والباحثين اليهود في الغرب وسيطرتهم على وسائل النشر والإعلام وتحكمهم بمصادر التمويل. وقد أثارت مساهمة اليهود في الدفاع عن ختان الذكور الشكوك حول نواياهم، خاصّة وأن الختان عندهم هو أوّلاً وأخيراً قضيّة إيمان بعهد بين الله وبينهم ولا علاقة له بالصحّة. فهم يختنون حتى الذي يموت غير مختون قَبل دفنه في مقبرة يهوديّة. ويمكن تقديم أربع أسباب محتملة لموقف اليهود.

هناك أولاً الرغبة في حماية المعتقد اليهودي من الداخل. فقد شرحنا كيف أن المجدّدين اليهود حاولوا كسر حائط العزلة بإلغاء ختان الذكور. وقد رأى رجال الدين اليهود حين ذاك في تلك المحاولة خطوة لهدم صرح الكتاب المقدّس وسلطتهم المبنيّة عليه. إلاّ أن الجدل حول الختان بين المجدّدين اليهود الألمان لم يعد له مكان في الولايات المتحدة على إثر انتشار الختان هناك بين المسيحيّين. وأمام الحملة الحاليّة ضد ختان الذكور بين المسيحيّين في الولايات المتحدة، يخاف رجال الدين أن يحس اليهود أنهم معزولون، ممّا قد يحثهم على فتح باب الجدل من جديد ضد ختان الذكور. لذلك يعملون جاهدين لكي يستمر الختان بين المسيحيّين.

وهناك ثانياً الرغبة في التبشير. فهناك من يرى وراء دعم اليهود للختان الشامل في الولايات المتحدة رغبة في اكتساب غيرهم إلى ديانتهم. فإذا ما ختن الشخص صغيراً لن يكون خوفه من الختان عائقاً أمام تحوّله إلى اليهوديّة عندما يكبر. أضف إلى ذلك أنه إذا لم يتحوّل غير اليهودي إلى اليهوديّة، فإنه على الأقل لن يعترض على ختان ابنه في حال زواجه من يهوديّة، عِلماً بأن الزواج المختلط بين اليهود وغير اليهود واسع الانتشار في الولايات المتحدة. هذا وقد سمح رجال الدين اليهود بختان غير اليهود باعتبار أن التوراة للجميع.

وهناك ثالثاً الأسباب السياسية. فقد ساعد الأطبّاء اليهود الذين هاجروا من ألمانيا خلال الحرب العالميّة الثانية إلى الولايات المتحدة في انتشار ختان الذكور هناك لأسباب دفاعيّة. فبختان أكبر عدد ممكن من غير اليهود، لن يعود بالإمكان التمييز بين اليهودي وغير اليهودي إذا ما استهدفتهم اضطهادات كالتي مرّوا بها في ألمانيا. وهكذا يكون تعميم الختان وسيلة لحماية اليهود. فمن المعروف أن الختان في ألمانيا كان العلامة لتمييز اليهودي عن غير اليهودي. ومن كان مختوناً من بين غير اليهود، كان يحمل شهادة عمّاد لتبرئة نفسه من اليهوديّة.

وهناك أخيراً الأسباب الانتقامية. فالختان كان وسيلة للتعرّف على اليهود في الحرب العالميّة الثانية ولاضطهادهم. والمضطهد يحاول الانتقام من مضطهده بدمغه بالعلامة التي يعتبرها عاراً. وهناك من يحلل تلك الظاهرة نفسيّاً: يحس اليهودي بالخصاء، فينتقم من المجتمع بخصي غيره. وهي ظاهرة نفسيّة معروفة عند علماء النفس.

وبالرغم من دعم اليهود لختان الذكور وممارسته على الغير ومحاولة نشره في العالم، تجدر الإشارة إلى وجود تيّار يهودي متنامي يناهض ختان الذكور. لا بل إن بعض اليهود أصبحوا رأس الحربة في الحركات المعارضة للختان.

2) المسلمون والختان والصراع السياسي

أ) ختان الإناث والاتهام بمعاداة الإسلام والمسلمين

في سبتمبر من عام 1994 انعقد في القاهرة مؤتمر السكان العالمي الذي تناول ضمن موضوعاته قضيّة ختان الإناث. وبهذه المناسبة اختارت القناة التليفزيونيّة الأمريكيّة (سي إن إن) تصوير تفاصيل تلك العمليّة البشعة التي أجريت لفتاة اسمها نجلاء في أحد الأحياء الشعبيّة القاهريّة على يد حلاّق الصحّة. وقد أثار هذا الفيلم ضجّة لدى الرأي العام المصري والعالمي، ونشرت في مصر كتب ومقالات كثيرة حول ختان الإناث، تأييداً أو رفضاً. وأخذ مؤيّدو ختان الإناث بالتلويح بالمؤامرة الغربيّة صراحة. ونكتفي هنا ببعض فقرات من كتاب «نهاية البيان في أحكام القرآن» من تأليف «أبو آلاء كمال علي الجمل»، مدرّس الحديث بكلية أصول الدين والدعوى بالمنصورة، صدر عام 1995 عن مكتبة الإيمان في المنصورة:

«إن هذه الهجمة على الختان [...] يقوم بها دعاتها ومروّجوها، إمّا عن جهل أو غفلة كما تفعل الببّغاوات، وإمّا عن خبث نيّة وسوء طويّة كما تفعل الثعالب والذئاب، وإمّا عن عداوة وبغضاء، كما يفعل العملاء والأجراء من الخونة والأعداء.

[...] همّهم في الحياة إشباع النزوات، وغايتهم ارواء الشهوات، ومقصدهم الانسلاخ من جميع الضوابط والحدود، والآداب والأخلاق والتقاليد والعادات. محاولين قلب مجتمعنا إلى ما يناسب تفكيرهم الأعوج وقلوبهم السوداء، وأنفسهم الخبيثة إلى مجتمع قائم على الفساد والإباحيّة والإلحاد واللادينيّة والفوضى واللاأخلاقيّة.

وقد جنّدوا لتحقيق ذلك الأجناد، وأعدوا له العتاد، يساندهم العدو من الخارج ويدعمهم العميل من الداخل، ويتبعهم السذّج من الببّغاوات والخبثاء من أصحاب الغايات».

ب) ختان الذكور والاتهام بمعاداة الأديان

احتل ختان الإناث الصدارة في النقاش الدائر على الساحة السياسيّة في العالم الإسلامي. وقد تم السكوت عن ختان الذكور. ولكن ختان الذكور لم ينج من فكر المؤامرة.

أشرنا سابقاً إلى موقف القاضي الليبي مصطفى كمال المهدوي المعارض لختان الذكور (انظر الملحق 22). فقد رفعت عليه دعوى بالردّة وطالب رجال الدين في ليبيا وفي السعوديّة بقتله ومنع كتابه. وبعد محاكمة طالت سبع سنين، برأته محكمة الاستئناف الليبيّة من تهمة الردّة ولكنّها في نفس الوقت صادرت كتابه ومنعت إعادة نشره.

وقد نشرت في الملحق 24 في آخر الكتاب نصّاً للشيخ محمود محمّد خضر يقول فيه أن وراء حملة مكافحة ختان الذكور

«مجموعة من الملحدين الذين لا مِلة لهم ولا دين ويهولهم أن يستيقظ الشعور الديني في أي مظهر من مظاهره أو أي شكل من أشكاله ومجموعة أخرى من المتعصّبين لمسيحيّة القدّيس بولس ويسوءهم العودة إلى كل ما هو شرقي حتى ولو كان هو الدين الصحيح لسيّدنا يسوع المسيح» (انظر الملحق 24).

ويضيف: «إن الحملة ضد الختان تمثل إهانة لجميع الأنبياء والمرسلين الذين مارسوا الختان ورغبوا فيه بمن فيهم محمّد وعيسى وموسى وإبراهيم عليهم جميعاً أفضل الصلاة وأتم التسليم». وعليه، فأعداء ختان الذكور في نظره هم «أعداء الأديان أعداء الإنسان أعداء الله أولياء الشيطان». ورغم اعترافه بأن ختان الذكور ليس واجباً في الإسلام، فإنه يرى في تحريمه محاولة لنشر الإلحاد. فحملة تحريم الختان هي مرحلة يتم الانتقال منها إلى مس جوهر العقيدة: «إذا كان من الممكن أن يتحوّل أمر من الأمور من مقدّس إلى مباح وبعد ذلك إلى محرّم أي ينتقل من النقيض إلى النقيض على مدى قرن أو قرنين من الزمان ألا يمكن أن يجرى هذا التطوّر على العقيدة نفسها؟»

3) الختان والصراع الاستعماري

في ظل تزايد الحديث عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة أصبحت قضية ختان الإناث محل بحث سنوي في المحافل الدوليّة بدعم من الدول الغربيّة والمنظمات غير الحكوميّة. وقد أصدرت عدّة دول غربيّة قوانين تمنع ممارسة ختان الإناث على أرضها، كما أنها دعمت تبنّي المحافل الدوليّة لقرارات تدين ختان الإناث، موجّهة خصّيصاً للدول الإفريقيّة. وتم إنشاء جمعيّات غير حكوميّة في الدول الغربيّة والإفريقيّة بدعم غربي لمكافحة هذه العادة. فماذا كان رد الفعل الأفريقي أمام التدخّل الغربي في شؤون الدول الإفريقيّة؟

كتب رئيس الدولة السنغاليّة عبدو ضيوف رسالة في 5 أبريل 1984 يقول فيها:

«إن السيّد ادمون كيزر، رئيس جمعيّة Sentinelles، يقوم بحملة ضد بتر الأعضاء الجنسيّة وخاصّة تلك التي تمس بالنساء. لقد قدّم نفسه لنا ليس كرقيب يشمت بمجتمعاتنا وثقافتنا، ولكن كرجل لا يفوته شيء يخص الإنسان. فهو يكافح باسم الأخلاق والقيم العالميّة. ولكن يجب أن لا نرتكب خطأ متسرّعاً بالحُكم [على هذه الممارسات] بالوحشيّة والدمويّة. يجب الحرص على عدم وصف ما هو اختلاف ثقافي بالوحشيّة. ففي إفريقيا التقليديّة ينبع ختان الإناث من مجموعة متماسكة لها قيمها واعتقاداتها وتصرّفاتها الثقافيّة والطقسيّة. فقد كانت تجربة ضروريّة في الحياة لأنها تتمّم مرحلة دمج الطفل بالمجتمع.

وإن كانت هذه الممارسات تخلق مشكلة اليوم فذلك لأن مجتمعاتنا في تحوّل كبير وتعيش ديناميكيات ثقافيّة واجتماعيّة جديدة ليس لمثل تلك الممارسات مكان فيها أو تظهر وكأنها بقايا أثريّة. ولذلك يجب الإسراع بالقضاء عليها. إلاّ أن القسم الأهم من هذا الكفاح سوف يتم من خلال التثقيف وليس بالتكفير، ومن الداخل وليس من الخارج».

وفي بداية عام 1999 نعت الرئيس الجامبي المكافحين والمكافحات ضد ختان الإناث في بلده بأنهم أعداء الإسلام. وأضاف أن من يبشّرون ضد هذه العادة، بما فيهم الرؤساء الدينيين المسلمين، يحاولون من خلال ذلك التصدّي للدين الإسلامي لهدمه. واعتبر أن التصدّي لعادة ختان الإناث دون المشاكل الأخرى التي تمس بصحّة المرأة في إفريقيا يخفي مصالح غربيّة محدّدة. وأضاف أن الذين يلجأون إلى استعمال تعبير «بتر» لوصف ختان الإناث يكذبون إذ إنه ليس هذا ما يتم. ولذا سوف يقدّم اقتراحاً بإصدار قانون يمنع الدعاية ضد ختان الإناث لأنه يعتبرها غير عادلة ولا يمكن السماح لها بالاستمرار.

هذا ولا يكتفي الأفارقة برفض التدخل الغربي في بلادهم، بل يريدون أن يمارسوا ختان الإناث على بناتهم في الدول الغربية ذاتها باعتبارها حقاً ثقافياًً. إلا أن من يتفهم رفض الأفارقة للتدخل الغربي في أفريقيا يرفض السكوت عمّا يجري في الغرب ويطالب الأفارقة باحترام القوانين الغربية. تقول «ريني سوريل» إن كان صحيحاً بأن ماضينا الاستعماري لا يسمح لنا أن نفرض أنفسنا بإعطاء الدروس للآخرين، ولكن ذلك لا يمنعنا من التدخّل إذا ما تم جرم على أرضنا في فرنسا. وقد جاء في النشرة الإعلاميّة التي توزّعها وزارة العمل والشؤون الاجتماعية الفرنسيّة بهدف الحد من ختان الإناث، أن اعتقاد الأهل أنهم يعملون عمل عملاً صالحاً بمراعاتهم تقاليدهم لا يغيّر من طبيعة الجرم. فختان الإناث مخالف للقانون الفرنسي لأنه بتر للجسد. وفي فرنسا يطبّق القانون على جميع سكانها بصورة متساوية مهما كانت جنسيتهم.

وإن كان التفريق بين الدول الغربيّة والدول الإفريقيّة في مجال سن القانون يخضع لاعتبارات سياسيّة، أهمّها الخوف من الاتهام بالإمبرياليّة، إلاّ أن هناك من يبرّر هذا التفريق لاعتبارات اجتماعية. تقول أستاذة إيطاليّة تعمل في مجال مكافحة ختان الإناث أن على الدول الغربيّة اتخاذ الوسائل التي تراها الأنجع لمنع إجراء ختان الفتيات اللاتي يعشن على أرضها مثل تثقيف وعقاب الأهل والطبيب وذلك لأن الختان يؤدّي إلى نتائج وخيمة ويمنع الفتيات من الاندماج في المحيط الجديد. بينما على الدول الإفريقيّة أن تتخذ الخطوات التي تختارها لمحو هذه العادة حسب الوسائل التي تراها الأفضل لأن الختان الذي يجرى في محيطه الاجتماعي الإفريقي أقل تأثيراً على البنات من الختان الذي يجرى في المجتمع الغربي.

4) الختان والصراع السياسي على أساس الجنس

جاء «ماركس» (توفى عام 1888) وأتباعه بنظريّة تفسّر التاريخ على أنه صراع ليس بين الأديان أو الأعراق، بل بين طبقات المنتجين والعمّال المستغَلين، واقترح حل هذا الصراع من خلال الاشتراكية. وقد حوّرت بعض الحركات النسائيّة هذه النظريّة معتبرة أن الصراع هو في حقيقته بين الذكور والإناث. ففوق الدين والعرق والطبقات هناك الرجل والمرأة في صراع يجب حله من خلال نظام المشاركة بين الجنسين. والنساء، حسب تعبير «بينوات جرولت»، هن آخر مستعمرة في العصر الحديث، وعليهن أن ينلن استقلالهن من خلال تضامنهن. وتعتبر الحركات النسائيّة عامّة ختان الإناث إحدى حلبات هذا الصراع بين الرجل والمرأة، وعلى جميع النساء مهما كان انتماؤهن الديني أو العرقي أو الطبقي المشاركة في هذا الصراع.

تتهم السيّدة «هوسكن» الرجال، جماعيّاً وأفراداً، بأنهم المسؤولون عن استمرار ختان الإناث، وأنه «لو كان هناك إرادة لإيقاف ختان الإناث، فإنه كان بالإمكان الوصول إلى ذلك خلال العشرين سنة الماضية في أكثر المدن. ولكن هذا يتطلب قيادة ذكوريّة على المستوى الوطني والدولي». وهي ترى تعبيراً عن سيطرة الرجال الأحكام التي يصدرها القضاء في موضوع ختان الإناث. فالقضاء يسيطر عليه الرجال. ولذلك فإنهم يحكمون على النساء وليس على الرجال في تلك القضايا.

وترى «هوسكن» أن المنظمات الدوليّة لها مصلحة واحدة: الحفاظ على النظام الذكوري. ولذلك تحبط أي تحرّي عن ختان الإناث. وكل الهيئات الحكوميّة التي تهتم بالتنمية يديرها رجال وليس فيها إلاّ بعض السكرتيرات. فالتنمية كانت دائماً بيد الرجال الذين يقومون بالاتصال بالحكومات التي يسيطر عليها رجال. وهم لا يسألون أسئلة عن النساء لأن المسؤولين الحكوميين قد يحتجّون على ذلك. وإن كانت الحكومات ترسل اليوم بعض النساء في مهمّات التنمية، فأن القرار يرجع في النهاية للرجال.

وتجد مواقف الحركات النسائيّة الغربيّة المتشدّدة صدى عند بعض النساء الإفريقيّات. تقول السيّدة الصوماليّة «واريس ديري» بلهجة لا تخلو من التهكم:

«إن الحروب القبليّة، مثلها مثل ختان الإناث، هي نتيجة عنف وأنانيّة الرجال. لا أحب أن أقول ذلك، ولكن هذه هي الحقيقة. فهم إنّما يفعلون ذلك لأنهم متشبّثون بأرضهم وممتلكاتهم، والنساء جزء من تلك الممتلكات ثقافيّاً وقانونيّاً. ولو أننا خصينا الرجال، لأصبحت بلدنا جنّة! فقد يهدأ الرجال ويصبحون أكثر إحساساً بما يحيط بهم. من دون دفعة التيستوستيرون المتتابعة، لن يكون هناك حروب، ولا مذابح، ولا سرقات، ولا اغتصاب. فلو أننا قطعنا أعضاءهم الجنسيّة وتركناهم يتوهون دون علاج حتى يسيل دمهم ويموتوا أو يعيشوا، فقد يفهموا لأوّل مرّة ما يفعلون تجاه نسائهم».

وترى ناهد طوبيا بأنه حتى لا يؤدّي نقد عادات الجماعات إلى تقوقعها على نفسها وعمل عكس ما يطلب منها، يجب ترك القيادة في معارك تلك الشعوب لأفرادها. وأمّا من لا ينتمون لتلك الشعوب فعليهم أن يساندوها وأن يعملوا بشراكة معها. ويجب على كل حال تقديم مبدأ الحق في سلامة الجسد، ليس كوسيلة لمعارضة ونقد تلك الشعوب، بل لصالحها.

هذا وإن كانت المنظمات النسائيّة تتهم الرجال باستمرار ختان الإناث لفرض سيطرتهم عليهن، فإن هناك نساء تتهم الرجال باستمرار ختان الذكور أيضاً، كجزء من مؤامرة الرجال على النساء. فالقصد من ختان الذكور، في نظرهن، هو فصل الطفل عن أمّه ومنعها من التدخّل لحمايته، وحرمان المرأة من اللذّة الجنسيّة. وهذا الاتهام يمتد ليصيب التوراة ذاتها. فعندما طلب الله من إبراهيم أن يختن ابنه، كلمه وكأنه هو الوحيد الذي ولده، فليس هناك أي ذكر لسارة أم الطفل. ولم يقم إبراهيم باستشارة أم الطفل قَبل ختانه. والذين قرّروا بأن الختان أمر مقدّس لأنه ضروري للسلطة الذكوريّة هم الرجال، وليس النساء أو الأطفال. لذا يجب على المرأة الآن إعادة تعريف ما هو مقدّس. وهي تعرف في قلبها أن أخذ السكين لقطع الأعضاء الجنسيّة لطفلها ليس مقدّساً، وليس مقدّساً التعدّي على ثقة الابن بأن أهله سوف يفعلون كل ما في إمكانهم لحمايته من الضرر.

الفصل التاسع
النتائج النفسيّة والاجتماعية للختان

تصوّر نفسك جالساً أو نائماً مع من تحب. ويدخل عليك فجأة أناس تجهلهم فيمسكوك بقوّة ويخلعون ملابسك ويقطعون جلد قضيبك بسكين حاد في عمليّة قد تدوم 15 دقيقة وأنت تصيح من الألم وتصارع لكي تفلت منهم. وفي حدّة الألم تكتشف أن من تحب قد تآمر عليك وساعد في تعريتك وبتر جلد قضيبك. فماذا سيكون رد فعلك؟ وهل تختلف آثار هذه الصدمة التي تصاب بها كبالغ عن آثار الصدمة التي يصاب بها من هو أصغر سنّاً؟

1) آثار صدمة الختان على الطفل

أ) آثار ختان الذكور

لاحظ علماء النفس أن الألم الذي يعيشه الشخص في وقت الولادة يؤثر على تصرّفاته مدى الحياة. وقد بنى بعض علماء طب النفس علاقة بين تجربة الولادة وما يحدث في الحياة عندما يكبر الشخص:

تجربة الولادة عوارضها في الحياة

الولادة بواسطة ملقط الجذب عدم الاستقلالية ووجع الرأس

ولادة متأخّرة عدم الصبر والشعور بالوقوع في فخ

ولادة قيصريّة عدم إحساس بالحدود وصعوبة في التعلم

ولادة مبكرة مقاومة التغيير والتعلق بفكرة معيّنة

الاختناق في الولادة داء الربو

ولادة مصاحبة بصدمة كبيرة رغبة في الانتحار وقلق من الموت

وإذا كان للوالدة أثراً، فلا يمكن إنكار أن للختان أثر مماثل لا سيما لو تم بعد وقت قصير من الولادة. وقد أشار علماء النفس الأمريكيّون منذ زمن طويل إلى آثار تلك الصدمة. فقد نشر الدكتور «دافيد ليفي» بحثاً عام 1945 يقول فيه إنه تأثر بكثرة عدد الحالات التي شهد فيها الهلع والهم واضطراب البال ترتسم على وجوه الأطفال عقب إجراء الختان، ولاحظ أنه كلما كان الطفل أصغر سنّاً كان أعظم تأثراً بالألم وأشد استجابة له. وقد وجد أنه كثيراً ما ينجم عن تلك الصدمات نوبات من الفزع والرعب تنتاب الأطفال أثناء نومهم فيهبّون مولولين ثم يصمتون قانطين. كما وجد أن هذه الصدمات تتلاشى ويزول أثرها بعد فترات تتباين طولاً وقصراً، ولكن قد يحدث ألاّ تزول البتة في الطفولة فتظهر في الكبر على صورة مسلك عدائي ضد المجتمع واستجابة للنزعات الهدّامة وسقوط في حمأة الإجرام ينشد به الاقتصاص من المجتمع. وقد شهد أطفالاً في الثالثة والرابعة من أعمارهم أصبحوا بعد جراحة الختان ذوي طباع شكسة ونزوع إلى التمزّق والتحريق والهدم والقتل والانتحار.

وهناك شهادات لأطفال عمرهم بين 3 و6 سنين تبيّن أنهم يتذكرون فعلاً ختانهم في صغرهم، وكيف أنهم سحبوا من حضن أمّهم. كما أن بعض الرجال يسترجعون في ذاكرتهم ختانهم. وقد وصف أحدهم تحت التنويم المغنطيسي بالتفصيل كل ما حدث له خلال عمليّة الختان والألم الذي تعرّض له عندما كان طفلاً. وقد عبّر آخر عن شعوره قائلاً: «الغضب تعبير لطيف شاحب لما أحس به. وقد يكون أكثر دقّة تسميته حقد ورغبة في الثأر وتعذيب وتشويه وتدمير كل شخص له أيّة علاقة بإجراء الختان أو أمر به أو طلبه». وقد قام طبيب آخر بمداواة نفسه بنفسه باسترجاع ختانه في ذاكرته. يقول: «كانت التجربة مثيرة للعاطفة ومخيفة. لقد شعرت بخوف كبير، وبدأت أصب عرقاً، وأرجف لمدّة طويلة. وفي بعض الأحيان كان ينتابني شعور بالغضب. كنت أرغب في حماية نفسي، ولكني لم أكن أستطيع ذلك. لقد شعرت بنفسي حزيناً جدّاً، مغموراً بالأسى، واليأس والإحباط».

ويرى «ايرليخ» أن الختان في الصغر لا يؤدّي إلى نتائج نفسيّة أو قد يؤدّي إلى نتائج غير هامّة، بينما يعترف بأن استئصال اللوزتين يترك أثراً في نفس الشخص يظهر عندما يتم بحث التجربة المؤلمة المُعاشة خلال الطفولة. فهناك شعور بالقلق وتشويش الشخصيّة وأن من يرعاه تخلى عنه. وقد لوحظ أنه كلما كان الطفل أصغر، كلما كان الأثر أكبر. وهذا التناقض عند «ايرليخ» قد يكون نابعاً من انتمائه لليهوديّة ودفاعه عن الختان، أو نتيجة كبته لما يشعر به.

ويرى بتلهايم أن الختان أكثر مضرّة على الصغير من الكبير لأن هذا الأخير يفهم ما يجري له. ويقارن بين الختان وبين العمليات التجميلية. فالبنت الكبيرة تخضع لتلك العملية رغم ألمها متفهمة أنها لمصلحتها.

ومن بين آثار الختان رفض المختون التفكير به أو التكلم عنه. وقد يتفادى بعض الرجال النظر إلى السكين والمقص طوال عمرهم. وهذه وسيلة لعدم تذكر الختان. وبعضهم يكره سماع كلمة الختان ويرتجف لسماعها. وبعضهم إذا وضعت كتاباً عن الختان بين يديه يصبح في حالة هستيريّة. وقد ذكر مركز مهتم بدراسات الختان أن البعض يتفادون أيضاً كتابة كلمة الختان على مغلف الرسالة. وقد لاحظ بعضهم أنك إذا وضعت على سيّارتك شعاراً ضد الختان، فإن السيّارات التي تتبعك سوف تأخذ مسافة كبيرة منك لتفادي قراءة هذه الكلمة.

ويشار هنا إلى أن الشخص يحاول أمام الألم أن يحمي نفسه بتزوير الحقيقة ونسيان الواقع. وقد أظهرت الدراسات أن الصدمة في الصغر تؤدّي إلى تغيير في الأعصاب المركزيّة وفي كيمياء الأعصاب، وأن الجزء الخاص بالذاكرة في المخ والذي يسمّى «قرن أمون» يكون أصغر حجماً عند الأطفال الذين يتعرّضون لانتهاك جنسي في صغرهم، وأن مقدرتهم على التذكر تكون أقل. وقد أكد «جيمس بريسكوت» متخصّص في أعصاب المخ أن الختان يؤثر على تطوّر المخ.

ب) تأثير صدمة الختان على الإناث

يذكر المعارضون المصريّون لختان الإناث عدداً من الآثار النفسيّة الناتجة عنه ويسكتون تماماً عن الآثار النفسيّة التي قد تنتج عن ختان الذكور.

وآثار ختان الإناث النفسيّة قد تكون سابقة له. فما أن تسمع الفتاة بما حدث لأقرانها الأكبر سنّاً حتى ينتابها القلق، وكلما اقتربت من السن المعتاد إجراء الختان فيه يتصاعد قلقها ويتحوّل إلى رعب نفسي قد يصل في بعض الحالات إلى حدوث كوابيس وتأخّر دراسي. وتزداد حدّة هذا القلق كلما كانت الفتاة معتدة بنفسها وبشخصيّتها. ولتفادي هذه الاضطرابات، تلجأ العائلة عامّة للمارسات السحرّية والدينيّة مثل التبخير ولبس الطلاسم.

ويحكى الدكتور طه باشر أن فتاة كانت تصرخ خلال نومها قائلة: «الحشرة الحشرة». ولكن الأهل لم يجدوا أثراً لمثل تلك الحشرة. ثم تبيّن أن خادمة البيت كانت قد أعادت عليها في الأيّام السابقة بأنها سوف تختن. فالحشرة التي تتكلم عنها في منامها تعبّر عند العامّة بمخالبها ومنظرها المخيف عن المرأة التي تقوم بالختان. وبعد ذلك تم التأكيد للفتاة بأنها لن تختن. وقد أدّي ذلك إلى انفعال الفتاة بشدّة وعادت إلى نومها الهادئ.

وفيما يخص الآثار اللاحقة لختان الإناث، يقول الدكتور عادل صادق أستاذ الطب النفسي:

«إن الختان يشكل عمليّة بتر وتظل في مخيّلة الفتاة مدى الحياة [...]. إن هذا الشعور بالبتر لعضو مهم في جسم الفتاة بما فيه من معان جنسيّة يصبح شيئاً راسخاً في ذهنها. ويقولون إن هذا الجزء يبتر حتى لا تنحرف الفتاة. إذاً يصبح مفهوم الأخلاق مرتبطاً بالغريزة وأنه لا إرادة لها في ذلك. وذلك يحرمها كأنثى من الاعتزاز بذاتها الأخلاقيّة الإنسانيّة الناشئة عن قناعة وإيمان».

وخلافاً للرأي السابق، هناك من يرى في ختان الإناث آثاراً إيجابيّة. تقول «لايتفوت كلاين» أن الفتاة السودانيّة تكسب نوعاً من الكبرياء الذاتي بعد ختانها إذ إنها تشعر بأنها أصبحت شابّة مسؤولة قابلة للزواج ومحل رضى أهلها وعرفانهم بمحافظتها على شرف العائلة. وترجع هذه الكاتبة عدم وجود أعراض نفسيّة إلى طبيعة الحياة العائليّة في السودان. فالأطفال هناك يعيشون جواً عائلياً دافئاً وودوداً يحسدهم عليه الغربيّون. وبعد الزواج يساعد الرباط القوي بين الزوجين على التخلص من تلك العوارض. وإن كانت هناك حالات نفسيّة اكتئابيّة وجنون، فإن علماء النفس لا يرجعونها إلى ختان الإناث. وقد يشجّع المجتمع عوارض الإحباط والخوف والقلق حتى تبقى المرأة تحت سيطرة الرجال.

ويقول «لانتيي» أن النساء التي تنتمي إلى مجتمع تقليدي متمسّك بعاداته ومعتقداته لا يعانين من أمراض نفسيّة أو شعور بالتعاسة بسبب ختان الإناث. لا بل قد تعتبر المرأة نفسها سعيدة في ذلك المجتمع. ولكن حيث تتفتت المعتقدات ويدخل الشك بين أفراد المجتمع الذين فقدوا المعنى الديني لهذه العادة، كما هو الأمر في المجتمع الصومالي، فإن المرأة هناك قد تصاب باضطرابات عصبيّة وتغرق في الخمول والحزن.

2) أثر الختان على العلاقة مع الأهل

يحتاج الإنسان والحيوان للحنان كما للأكل. هذه هي سُنّة الطبيعة. وعند الإنسان والحيوان يبدأ الحنان بالأم. فيتعلق الطفل بها كما تتعلق به. وهذا يؤثر على صحّة الطفل الجسديّة والنفسيّة وعلى تصرّفاته في حياته كلها.

يبدأ تأثير الختان في علاقة الأم مع ابنها منذ الحمل، فتقلق الأم بسببه. فيؤثر هذا القلق بدوره على الطفل، خاصّة إذا لم تجد الأم حلاً لهذه المعضلة مع زوجها. وقد يكون له تأثير على الولادة التي قد تطول وتصبح أكثر تعقيداً، وقد يؤثر على وزن الطفل. وقد بيّنت شهادة أن ولادة أم يهوديّة كانت مستعصية. واكتشفت القابلة أن الأم لم تكن تريد أن تختن ابنها، والأب كان برأي مخالف. عندها اقتربت القابلة من الأب وطلبت منه بأن يقول لزوجته بأنه غيَّر رأيه وأنه لن يختن ابنه. فتمّت الولادة بسهولة وبقي الطفل دون ختان.

وقد يعتبر الختان في الصغر كسراً للعلاقة بين الأم والطفل يرقى إلى درجة الصدمة. فالطفل يؤخذ من أمّه إلى غرفة أخرى والى جو آخر ممّا يسبّب له الرعب والقلق. ويفترض أن يؤدّي كسر العلاقة بين الأم والطفل بسبب الختان أو لأي سبب آخر إلى اضطرابات نفسيّة وعصبيّة بالإضافة إلى نتائج صحّية. فقد لوحظ أنه في حالة فصل الحيوان الصغير عن أمّه لمدّة معيّنة، فإن ذلك يؤثر على علاقة الأم مع ابنها إلى درجة رفضها الاعتناء به. وهذه الظاهرة تم اختبارها على الإنسان في علاقة الأم بابنها. وهذا يؤثر على مقدرة الطفل على الكلام. وهناك أيضاً من رأى صلة بين فصل الأم عن طفلها وانتهاكه للأطفال عندما يكبر.

ونفس المشكلة نجدها في ختان الإناث. تقول الدكتورة عبد الفتاح بأنه يترتب على هذا الختان «فقد ثقة البنت في الآخرين وخاصّة وأنهم يمثلون أحب الناس إليها - وهم الوالدان ومن يحل محلهما. وهنا يرتبط الغدر والأذى الجسمي بأولئك الذين كانوا محل ثقة وحب الفتاة».

ويذكر الدكتور عادل صادق، أستاذ الطب النفسي، حالة سيّدة طلقها زوجها لأنها لم تشعر بأي متعة معه. فاتجهت بعدوانيتها نحو والدها الذي اعتبرته سبب فشل حياتها الزوجيّة، وذلك لإصراره على ختانها في طفولتها.

3) أثر الختان على العلاقة مع المجتمع

بيّنت البحوث التي أجريت على القردة أنه إذا فصل صغيرها عن أمّه وربّي مع لعبة تشبه الأم مصنوعة من قماش ناعم ودافئ تصبح عواطفه مضطربة عندما يكبر. وإذا ربّي مع لعبة تشبه الأم من المعدن البارد، فإن هذا القرد يصبح أبا متعسّفاً. والقردة الأم التي ربّيت دون أمّها تصبح أقل رأفة على ابنها فلا تستجيب لصراخه ولا تطيّب خاطره. وهذه القردة تصبح عنيفة مع أولادها. ونفس الظاهرة نجدها عند الإنسان. فالذي يعاني من الحرمان يحرم الغير من الحنان. والذي يُنتهك يكوّن شخصيّة قلقة على المستوى الجنسي ويحرم الغير من اللذّة الجنسيّة. وقد بيّنت الدراسات أن الأطفال الذين يضربون من أهلهم هم أطفال أهل ضُربوا سابقاً. وهؤلاء الأطفال سوف يضربون أولادهم بعد ذلك. وهذا لا يعني أن كل الأطفال سيصبحون عنيفين مع أطفالهم. فهنا قد يدخل في الاعتبار ما إذا كان الشخص قد حصل على تعويض عاطفي وجنسي في كبره. ونحن نقدّم هنا آثار ختان الذكور المحتملة على المجتمع بصورة مختصرة.

أ) انتقاص تقدير الذكور لأنفسهم وتقديرهم للغير

إذا ما عرف الذكور أن الختان له أثر على العلاقة الجنسيّة، فإنهم سوف ينظرون لأنفسهم نظرة سلبيّة، ممّا يحط من تقديرهم لأنفسهم، خاصّة أن العلاقة الجنسيّة لها علاقة قويّة بتقدير الذات. وهذا له أثر شخصي واجتماعي. فالذي لا يقدّر نفسه لا يقدّر الآخرين. ويؤدّي ذلك إلى الانعزالية والإحباط واستعمال المخدّرات. ولكي يعوّض عدم تقديره لنفسه، يحاول البعض اتخاذ تصرّفات خاصّة. فهو سوف يفضّل العلاقة