Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

غلفتكم، ويكون ذلك علامة عهد بيني وبينكم. (12) وابن ثمانية أيّام يختن كل ذكر منكم من جيل إلى جيل، سواء أكان مولوداً في البيت أم مشترى بالفضّة من كل غريب ليس من نسلك. (13) يختن المولود في بيتك والمشترى بفضّتك، فيكون عهدي في أجسادكم عهداً أبديّاً. (14) وأي أغلف من الذكور لم يختن في لحم غلفته، تفصل تلك النفس من ذويها، لأنه قد نقض عهدي. (15) وقال الله لإبراهيم: ساراي امرأتك لا تسمها ساراي، بل سمها سارة. (16) وأنا أباركها وأرزقك منها ابناً وأباركها فتصير أمماً، وملوك شعوب منها يخرجون [...] (22) فلمّا فرغ من مخاطبته ارتفع الله عن إبراهيم. (23) فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع مواليد بيته وجميع المشترين بفضّته، كل ذكر من أهل بيته، فختن لحم غلفتهم في ذلك اليوم عينه، بحسب ما أمره الله به. (24) وكان إبراهيم ابن تسع وتسعين سنة عندما ختن لحم غلفته. (25) وكان إسماعيل ابنه ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن لحم غلفته. (26) في ذلك اليوم عينه خُتن إبراهيم وإسماعيل ابنه (27) وجميع رجال بيته، سواء أكانوا مواليد بيته أم مشترين بالفضّة من الغريب، خُتنوا معه.

الأحبار: الفصل 12

(1) وخاطب الرب موسى قائلاً: (2) كلم بني إسرائيل وقل لهم: أيّة امرأة حبلت فولدت ذكراً تكون نجسة سبعة أيّام، كأيّام طمثها تكون أيّام نجاستها. (3) وفي اليوم الثامن تختن غلفة المولود. (4) وثلاثة وثلاثين يوماً تظل في تطهير دمها. لا تلامس شيئاً من الأقداس ولا تدخل المقدس، حتى تتم أيّام تطهيرها. (5) فإن ولدت أنثى، تكون نجسة أسبوعين كما في طمثها، وستة وستين يوماً تظل في تطهير دمها. (6) وعند إكمال أيّام طهرها، لذكر كان أو لأنثى، تأتي بحمل حولي محرقة، وبفرخ حمام أو بيمامة ذبيحة خطيئة، إلى باب خيمة الموعد، إلى الكاهن. (7) فيقرّبهما أمام الرب ويكفر عن المرأة، فتطهر من سيلان دمها. هذه شريعة الولادة ذكراً وأنثى. (8) فإن لم يكن في يدها ثمن حمل، فلتأخذ زوجي يمام أو فرخي حمام: أحدهما محرقة والآخر ذبيحة خطيئة، فليكفر عنها الكاهن فتطهر.

2) وجوب ختان الذكور عند اليهود

قبل أن نخوض في مفهوم الختان عند اليهود، نود أن نلقي نظرة تاريخيّة سريعة على تلك العادة في الشرق الأوسط وهو المحيط الجغرافي الذي عاش فيه اليهود لنرى مدى تأثير ذلك المحيط على الفكر اليهودي.

أ) ختان الذكور في الشرق الأوسط قديماً

عرفت مصر القديمة كل من ختان الذكور والإناث. والذي يهمنا هنا هو ختان الذكور. وسوف نعود إلى ختان الإناث عند تكلمنا عنه عند اليهود.

هناك مسلة من القرن الثالث والعشرين قَبل المسيح كتب عليها أحد موظفي الملك أنه ختن ضمن 120 رجل. وفي القرن العشرين قَبل المسيح ذكر الملك سينوسيرت الأوّل أن الإله الشمس قد عينه سيّد البشر عندما كان طفلاً لم يفقد غلفته بعد. وتقريباً في القرن التاسع عشر يقول الحاكم خنوبهوتيم الثاني أن أباه كان قد عُيّن حاكماً قبل أن يختن. وهناك بعض النقوش والصور التي تبيّن إجراء عمليّة الختان منذ زمن قديم في مصر. ففي إحدى صور من قبر يرجع للسلالة السادسة (2300 ق.م) نرى صبيين ما بين السادسة والثامنة وهما يختنان. ففي نقش نرى شخصاً واقفاً وقد جلس على الأرض أمامه الجرّاح ممسكاً بيده اليمنى آلة مستطيلة في وضع عمودي على العضو وفي اتجاه طوله. ونلاحظ أنه لا تبدوا على أسارير وجه المختتن ما ينم عن تألمه. أمّا الجزء الأيسر فيظهر فيه الجرّاح ممسكاً بآلة أو بشيء آخر بيضوي الشكل (قد يكون صوّاناً) يلمس به العضو التناسلي الذي يسنده بيده اليسرى. وفي هذا الجزء تدل ملامح المريض على شعوره بالألم. ونلاحظ كذلك وجود مساعد الجرّاح خلف المريض وقد امسك بذراعيه على ارتفاع وجهه في عنف ونقرأ قول الطبيب: «امسكه كيلا يقع»، والإجابة: «سأفعل وفق إشارتك». وقد حفظ لنا متحف الآثار المصريّة بالقاهرة عدداً من التماثيل الحجريّة والخشبيّة لرجال عراة مختونين يبان منها أن الختان كان يمارس في مصر، إمّا بقطع كامل للغلفة أو بشق الغلفة على شكل V لإظهار الحشفة. وقد أوضح الكشف عن الموميات أن الختان بشكليه كان يمارس ولكن ليس بصورة عامّة على الجميع.

وهناك مسلة تخلد انتصار الملك النوبي «بيي» عام 728 ق.م على تحالف من أمراء الدلتا وارتقائه عرش مصر. كُتب على هذه المسلة أن حكاماً ذهبوا إلى الملك ليعربوا عن ولائهم له ولكنّهم لم يدخلوا القصر لأنهم كانوا غير مختونين وأكلة سمك، عدا «نمرود» لأنه كان طاهراً ولا يأكل السمك. وكان للقصر في ذاك الزمن صبغة دينيّة إذ إن الملك يمثل الآلهة على الأرض. وقد كُتب على هيكل الإلهة إيزيس في جزيرة «فيلي» تعليمات تحرِّم دخول الهيكل على غير المختون ومن يأكل السمك.

وقد زار هيرودوت (توفى عام 424 ق.م) منطقة الشرق الأوسط وسجّل في كتابه إشارة إلى عادة الختان في مصر. فهو يقول: «بينما كل شعوب الأرض تُبقي على الأعضاء التناسليّة كما هي، فإن المصريّين ومن تعلم منهم يمارسون عادة الختان». ويضيف «بأنهم يمارسون الختان حفظاً للنظافة، لأن النظافة عندهم أولى من الجمال». ثم يشرح كيف أنهم كانوا مثابرين على النظافة. فهم يشربون بأكواب من النحاس يغسلونها جميعهم كل يوم ويلبسون ثياباً من الكتان نظيفة. والكهنة منهم كانوا يحلقون أجسادهم كل يومين حتى لا يبقى عليهم قمل أو نجاسات أخرى. ثم ذكر هيرودوت إن عادة الختان قديمة جدّاً عند المصريّين والإثيوبيين لدرجة عدم تمكنه معرفة من أخذ عن الآخر عادة الختان. ولكنّه يُرجِّح أن يكون الإثيوبيون قد أخذوها عن المصريّين.

وعندما يتكلم سترابو، عالم الجغرافيا والمؤرّخ اليوناني الذي زار مصر بين 25-23 ق.م، عن الختان في مصر، يربط بين هذه العادة عند المصرين والعادة عند اليهود، وهو يُرجع اليهود إلى أصل مصري. فهو يقول: «هناك عادة يلاحظها الإنسان في دهشة بين المصريّين، ذلك أنهم يُربّون باهتمام كل طفل يولد لهم وانهم يختنون الأولاد ويخفضون البنات، كما هي العادة أيضاً بين اليهود، الذين هم من أصل مصري».

ويؤكد المؤلف اليهودي «فيلون» (توفى عام 54) أن المصريّين كانوا يمارسون الختان. فيختنون كل من الذكر والأنثى عندما يبلغون سن الرابعة عشر، أي عندما يبدأ «الخطيب» بالإمناء و «الخطيبة» بالعادة الشهريّة. وهنا نرى ارتباط الختان بالزواج.

بالإضافة إلى مصر، هناك شواهد على ممارسة الختان في مناطق أخرى من الشرق الأوسط. فقد وُجد في سوريا ثلاثة تماثيل معدنيّة صغيرة لرجال عراة ترجع إلى القرن الثامن والعشرين قَبل المسيح. ويظهر على اثنين منهم انهما ختنا ختاناً كاملاً، والثالث ختن ختاناً جزئيّاً. ويذكر هيرودوت أن الفينيقيّين والفلسطينيين قد أخذوا عادة الختان عن المصريّين وأن الفينيقيّين قد ألغوا عادة الختان منذ أن تاجروا مع الإغريقيّين. وتعتبر التوراة العرب شعباً غير مختون. وكذلك الأمر بخصوص الفلسطينيين. ويذكر المؤرّخ اليهودي «يوسيفوس» (توفى قرابة عام 100) أن العرب كانوا يختنون أطفالهم عندما يبلغون سن الثالثة عشر لأن إسماعيل خُتن في هذا العمر، بينما اليهود يختنون في اليوم الثامن لأن إسحاق ختن في اليوم الثامن. ولكنّه يضيف أن اليهود كانوا السكان الوحيدين الذين يمارسون الختان في فلسطين.

ب) الختان وأسطورة العهد بين الله واليهود

توحي لنا التوراة أن الختان بدأ بأمر أعطاه الله لإبراهيم الأب الأسطوري للعرب واليهود. ولكن هناك شاهد في التوراة ذاتها يبيّن أن الختان كان يمارس منذ عهود قديمة قد تعود إلى العصر الحجري. ويثبت هذا استعمال الصوّان كآلة للختان (الخروج 25:4؛ يشوع 2:5-3).

والمؤرّخون لم يتفقوا على تاريخ ميلاد إبراهيم. وبعضهم يرى أنه عاش في القرن التاسع عشر قَبل المسيح، أي عشرة قرون قَبل صياغة سفر التكوين في صورته الحاليّة، إذا افترضنا أن النص صيغ في القرن التاسع قَبل المسيح. كما أن المؤرّخين يرون أن سفر التكوين في صورته الحاليّة، بما فيه النصوص الخاصّة بالختان في الفصل السابع عشر، هو تجميع لروايات وحكايات وأساطير تنتمي إلى عصور متباعدة لمجتمع مر بأطوار مختلفة من البداوة إلى الزراعة إلى حُكم ملك. فالآية 6 تقول: «وسأنميك جدّاً جدّاً وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون» وهذه الآية والآية 16 من نفس الفصل تبيّنان أن كاتب هذه الرواية هو كاهن مجهول الهويّة كان يعيش في عصر حَكمه ملك حوالي القرن التاسع قَبل المسيح. ومنهم من يظن أن النص الخاص بالختان في الفصل 17 من سفر التكوين والفصل 12 من سفر الأحبار أضيف في القرن السادس بعد رجوع اليهود من المنفى من قِبَل رجال الدين للسيطرة على الشعب.

وإذا عدنا إلى محتوى الفصل 17 من سفر التكوين، نجد أنه يحكي لنا قصّة فحواها أن الله ظهر لإبراهيم عندما كان عمره 99 سنة وعمر ابنه إسماعيل 13 سنة، فسقط على وجهه، أي أغمي عليه. وبعد أن أفاق قطع الله له عهداً على نفسه لإبراهيم وذرّيته بأن يكثر ذرّيته ويعطيه أرض الميعاد، أي «أرض كنعان»، ويطالب إبراهيم مقابل ذلك أن يختتن وأن يجرى هذه العمليّة على جميع أفراد عائلته وعلى عبيده الذكور. وهذا الفصل أساس لثلاثة مبادئ يهوديّة مترابطة ما زالت حتى يومنا هذا تطرح مشاكل سياسيّة وأخلاقيّة جمّة:

- مبدأ «شعب الله المختار»، وهي فكرة عنصريّة.

- مبدأ «أرض الميعاد» التي يرتكز عليها اليهود في مطالبتهم بأرض فلسطين وحرمان أهلها منها.

- مبدأ وجوب ختان الذكور القاصرين.

ويستعمل اليهود كلمتي «بريت ميلا» للتعبير عن الختان. وهذه تعني حرفيّاً «عهد القطع». وهي إشارة واضحة إلى العهد بين الله وإبراهيم. والعرب يستعملون عبارة «قطع عهداً» لتعني أخذ عهداً على نفسه. فالختان هو علامة (اوت بالعبريّة: آية بالعربيّة) لإظهار العهد: عهد الله مع إبراهيم بتكثير نسله وإعطائه أرض الميعاد.

ج) الختان علامة انتماء وتمييز وخلاص

أول مرّة تتكلم التوراة عن الختان تعتبره علامة عهد. وهو بمثابة ورقة الهوية في أيامنا. يعرّف بأفراد مجموعة ويحدّد حقوقهم أي امتلاك أرض كنعان إلى الأبد. والتوراة تفرّق بين اليهود وغير اليهود على أساس الختان. ففي الفصل 9 من سفر أرميا نقرأ: «ها إنها تأتى أيّام، يقول الرب، أعاقب فيها كل المختونين في أجسادهم. مصر ويهوذا أدوم وبني عمون وموآب، وكل مقصوصي السوالف الساكنين في البرّية، لأن كل الأمم غلف، وكل بيت إسرائيل غلف القلوب». وكلمة «مقصوصي السوالف» تعني العرب الذين كان لهم عادات خاصّة في قص الشعر حرّمتها الشريعة: «ولا تحلقوا رؤوسكم حلقا مستديرا، ولا تقص أطراف لحيتك» (الأحبار 27:19). وفي الفصل 4 من سفر يهوديت نقرأ: «ورأى أحيور كل ما فعل إله إسرائيل فآمن بالله إيماناً راسخاً وختن لحم غلفته فضُم إلى بيت إسرائيل إلى اليوم». كما في الفصل 56 من سفر أشعيا إشارة إلى أن الغرباء الذين يحترمون السبت والختان ينضمّون للشعب.

ونحن نجد ممارسة الختان كعلامة انتماء للشعب اليهودي عند كثير من اليهود الذين لا يمارسون شعائر ديانتهم، وحتى بين الملحدين منهم. وما زال المؤلفون اليهود في يومنا يعتبرون الختان «علامة لا تمحى» لليهودي وأنه واحد من أقوى المساعدين للبقاء اليهودي.

د) الأغلف يقطع من الشعب اليهودي

يرى رجال الدين اليهود أن الكتب المقدّسة هي التي تقرّر ما هو شر وما هو خير ومن يخالفها يتعرّض لعواقب خطيرة. فالتوراة تقول:

«والآن يا إسرائيل، اسمع الفرائض والأحكام التي أعلمكم إيّاها لتعملوا بها، لكي تحيوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الرب إله آبائكم إيّاها. لا تزيدوا كلمة على ما آمركم به ولا تنقصوا منه، حافظين وصايا الرب إلهكم التي أنا أوصيكم بها» (تثنية 1:4-2).

«بكل ما أنا آمركم به تحرسون أن تعملوه، لا تزد عليه ولا تنقص منه» (تثنية 1:13).

«فريضة أبديّة مدى أجيالكم في جميع مساكنكم» (الأحبار 24:23).

معتمداً على هذه النصوص، يرى ابن ميمون (توفى عام 1204)، أكبر لاهوتي وفيلسوف يهودي، أن أوامر الكتب المقدّسة اليهوديّة أوامر أبديّة ولا يحق لأحد أن يغيّرها وكل من تخوّل له نفسه أن يغيّرها أو يلغيها أو يفسّرها بخلاف ما فسّرت به سابقاً يجب قتله خنقاً.

والختان أحد تلك الأوامر التي نصت التوراة على عقوبة لمن يخالفها: «أي أغلف من الذكور لم يختن في لحم غلفته، تفصل تلك النفس من ذويها، لأنه قد نقض عهدي» (تكوين 14:17).

وهناك من يربط بين هذا الجزاء وبين ما حدث لموسى الذي أهمل ختان ابنه وهو في طريقه إلى مصر. فقد لاقاه الرب وهمّ قتله، فأنقذته زوجته صفورة بقيامها بتلك المُهمّة (الخروج 20:4-26). أي أن عدم الختان يعرّض غير المختون للموت. ويبيّن هذا النص أن موسى لم يكن قد ختن ابنه في يومه الثامن وأن الختان لم يتم إلاّ على الابن البكر. ويعني أيضاً أن موسى نفسه لم يُختن وقد اكتفت زوجته بمس رجليه (وهذا ربّما تعبير مؤدّب عن مس عضوه التناسلي) بيديها الملطختين بدم ابنها البكر.

هـ) الأغلف نجس

وإذا كان الختان في سفر التكوين هو علامة عهد، فإنه في الفصل 21 من سفر الأحبار قد جاء ضمن القواعد الخاصّة بتطهير المرأة من نجاستها بعد ولادتها. فلا يحق للام أن «تلامس شيئاً من الأقداس ولا تدخل المقدس، حتى تتم أيّام تطهيرها». ومدّة تطهير الأم تختلف حسب المولود. فإن كان ذكراً، تكون نجسة لمدّة 7 أيّام ومن بعدها تختن غلفة المولود وتظل 33 يوماً في تطهير دمها. أمّا إذا ولدت أنثى، فإن الأم تكون نجسة أسبوعين، و66 يوماً تظل في تطهير دمها. وفي الآية الثالثة من هذا النص، هناك أمر بختان المولود الذكر تقول: «في اليوم الثامن تختن غلفة المولود». فيرى البعض أن الطفل أعتبر نجساً بسبب ملامسته أمّه النجسة بسبب الولادة، فيكون الختان أسلوباً لتطهيره من نجاسة أمّه.

ونصوص التوراة تعتبر الأغلف (أي غير المختون) نجساً. فهي تطلق كلمة الأغلف على غير اليهودي وهي تعني الرجل غير الطاهر الذي لا يحمل علامة الانتماء لشعب الله المختار. وفي سفر يشوع نقرأ أن يشوع ختن اليهود قَبل دخولهم أرض الميعاد. وهكذا رفع عار المصريّين عن اليهود (يشوع 9:5). وتعيد علينا المشنا أن الغلفة نجسة لأن الكتاب المقدّس اليهودي يعيب على الوثنيّين عدم ختانهم، معتمدة في ذلك على آية أرميا 25:9: «مصر ويهوذا أدوم وبني عمون وموآب، وكل مقصوصي السوالف الساكنين في البرّية، لأن كل الأمم غلف، وكل بيت إسرائيل غلف القلوب».

ونجد امتداداً لفكرة عدم طهارة غير المختون في الفصل 12 من سفر الخروج الذي يمنع الأغلف من إقامة فريضة الفصح أو الأكل من ذبيحة الفصح. والتلمود يمنع من هو غير مختون أن يأكل من الأكل المخصّص للكهنة.

وسوف نرى أن الطفل الذي مات بعض اخوته يعفى من الختان. وهذا اليهودي أيضاً لا يسمح له أكل ذبيحة الفصح. وكذلك الأمر بخصوص الأب الذي لا يختن أطفالاً أو عبيداً له كان عليه ختانهم. وكذلك الأمر بخصوص الطفل الذي يولد مختوناً، فلا يحق له أن يأكل من ضحيّة الفصح حتى تنزل نقطة دم منه. وإذا ذبحت ذبيحة الفصح لمثل أولئك فإن المعنى الديني لهذه الذبيحة يفسد. وهناك إعفاء من المنع إذا أُجِّل الختان لأن الطفل مريض أو كان الطفل خنثى أو كان والديه في السجن ولم يتمكنوا من ختانه.

وحزقيال يمنع الأغلف دخول الهيكل (9:44). وأشعيا يمد هذا المنع لكل مدينة أورشليم (1:52).

و) الأغلف لا يُقبل زواجه من يهوديّة ولا يناسب

والختان في التوراة يعتبر شرطاً للزواج. فلا يحق أن يتزوّج الأغلف من يهوديّة. كما أنه لا يحق لليهودي أن يأخذ امرأة من جماعة غير مختونة. فيروي لنا الفصل 24 من سفر التكوين قصّة اغتصاب دينة ابنة يعقوب من رجل غير يهودي. وقد طلب المغتصب الزواج منها، مقترحاً بأن يتم التزاوج بين اليهود وبين أهل مدينته. فوضع أبناء يعقوب شرط الختان، عليه وعلى كل ذكر من أهل مدينته لأن الزواج من أغلف يعتبر عاراً. فوافقوا على ذلك وتم الزواج فعلاً من دينة بعد الختان. ولكن ذلك لم يكن إلاّ حيلة. فبعد الختان، لم يكن باستطاعة رجال المدينة المدافعة عن أنفسهم بسبب الألم. فدخل اخوة دينة عليهم وأخذوا أختهم وقتلوا كل ذكر بحد السيف وسبوا كل ثروتهم وجميع أطفالهم ونسائهم، وسلبوا كل ما في البيت.

ويروي الفصل 14 من سفر القضاة أن شمشون وقع في حب فلسطينيّة. ولكن أبوه وأمّه كانا معارضين لذاك الزواج: «أليس في بنات اخوتك وفي شعبي كله امرأة، حتى تذهب وتأخذ امرأة من الفلسطينيين الغلف؟» وهذا يبيّن أن الفلسطينيين لم يكونوا يختنون أولادهم.

ومنع الزواج بين اليهود وغير اليهود هو امتداد لفكرة شعب الله المختار التي تضمّنها النص الخاص بالختان. فلا يحق لليهودي أن يختلط بالشعوب الأخرى لإفساد صفاء الدم اليهودي. ونجد هذا الفكر العنصري اليهودي في أجلى صوره في سفر عزرا الكاهن. فهذا الكاهن يهيج غضباً ضد اليهود الذين اتخذوا زوجات من خارج الشعب اليهودي «فاختلط النسل المقدّس بشعوب البلاد» (2:9). ويحكي لنا سفر عزرا كيف أنه مزّق ثيابه ونتف شعره ولحيته غيظاً (3:9) وطلب من جميع الشعب الاجتماع في ساحة الهيكل «وأن كل من لا يأتي في ثلاثة أيّام تحرّم كل أمواله» (7:10). فاجتمعوا هناك في يوم ممطر فقال لهم: «إنكم خالفتم واتخذتم نساء غريبات، لتزيدوا في إثم إسرائيل. فاحمدوا الآن الرب إله آبائكم وأعملوا بما يرضيه، وانفصلوا عن شعوب الأرض والنساء الغريبات» (11:10). وهذا الجزء من الكتاب المقدّس اليهودي كان قد ألهم القوانين العنصريّة النازية في عصرنا وما زال يلهم رجال الدين اليهود في موقفهم المعادي من الزواج المختلط لأسباب عنصريّة مقيتة. وفي عام 1984 اقترح الحاخام مئير كهانة (توفى عام 1990) مشروع قانون يعاقب الزواج المختلط والعلاقات الجنسية بين اليهود وغير اليهود. وقد قام أحد أعضاء الكنيست بتوزيع مقارنة بين ذاك المشروع والقوانين العنصرية النازية.

ز) الأغلف لا يعاشر لا في الحياة ولا في الموت

يعتبر الأغلف في نظر اليهودي رجلاً نجساً. ولذلك لا يحق معاشرته في مأكله أو مشربه أو دخول بيته أو أكل ذبائحه.

وقد دار جدل في التلمود حول أطفال امرأة عبدة تم ختانهم ولكن لم يغطسوا في الحمّام الطقسي. فهل يدنّسون الخمر إذا مسّوه؟ وكان الجواب نفياً لأن الطفل لا يميّز طبيعة الوثن. أمّا إذا كان من مس الخمر بالغاً فإن الخمر يفسد، فلا يحق شربه.

ويذكر «موشي مينوهين» (توفى عام 1983)، والد عازف الكمان «يهودي مينوهين»(توفى عام 1999)، أن جدّه المتديّن الذي كان يسكن في مستعمرة في فلسطين كان يسكب في المجاري قناني الخمر التي تبقى على مائدته بعد رحيل ضيوفه غير اليهود. وعندما سأله حفيده عن سبب ذلك، كان جوابه بأن الخمر الذي في القناني المفتوحة من قِبَل غير اليهود (الجوييم) تصبح فاسدة وممنوعة من الشرب حسب القواعد اليهوديّة.

وهذه النظرة اليهوديّة للأغلف نجدها في بداية المسيحيّة. فقد عاتب مسيحيّون من أصل يهودي بطرس لقبوله دعوة قرنيليوس، قائد مائة من الكتيبة التي تدعى الكتيبة الإيطاليّة. فقالوا له: «لقد دخلت إلى أناس غلف وأكلت معهم» (أعمال 1:11-3). وبطرس يعرف هذا المنع ويعرف أن الوثنيّين على علم به. ففي مخاطبته لداعيه يقول: «تعلمون أنه حرام على اليهودي أن يعاشر أجنبياً أو يدخل منزله» (أعمال 28:10). وفي رسالته إلى أهل غلاطية، يعلمنا بولس كيف أن بطرس، «قبل أن يقدّم قوم من عند يعقوب، كان يؤاكل الوثنيّين. فلمّا قدموا أخذ يتوارى ويتنحّى خوفاً من أهل الختان» (غلاطية 12:2).

ويمتد الفصل بين اليهود وغير اليهود حتى داخل المقبرة. فلا يحق دفن غير المختون في مقبرة يهودية. وقد تم ختان اليهود البالغين قَبل دفنهم إذا وجدوا غير مختونين كما حدث مع الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي وماتوا في إسرائيل. وقد نشرت جريدة «جيروزليم بوست» عام 1993 خبراً يقول أن جمعيّات الدفن في كل إسرائيل تختن الأموات قَبل دفنهم دون إذن أهل الميّت. وقد دافعت جمعيّات الدفن ورئيس الحاخامات الشرقيّين الحاخام مردخاي الياهو عن هذا التصرّف. بينما أصدر رئيس الحاخامات الغربيّين «إسرائيل لو» تصريحاً يقول فيه إن الحاخامات لا يفرضون الختان لا على حي ولا على ميّت. إلاّ أن الجدل حول هذا الموضوع عاد إلى البرلمان الإسرائيلي في يوليو 1998 حيث صرّح «يوسي سريد»: «أنا وحدي المسئول عن أعضائي الجنسيّة وليس أحد سواي. إن السلطات الدينيّة لا تكتفي بالسيطرة على حياتنا بل تراقب أيضاً موتنا». ووصف «عوفير بينس» ختان الموتى بأنه «انحراف جنسي مرضي». وقد ردَّت وزارة الشؤون الدينيّة بأن هناك حالات قليلة يتم فيها ختان الميّت دون موافقة أهله، ولكن يجب الأخذ بالاعتبار أن من هو غير مختون لا يمكن دفنه في المقابر اليهوديّة. إلاّ أن إحدى الصحف نقلت عن مستشار تلك الوزارة قوله بأن ختان الموتى يتم بصورة روتينية.

ح) المبالغة في أهمّية الختان

هناك رواية يهوديّة تقول إن إبراهيم يقف يوم الدينونة على باب الجحيم فلا يسمح أن يدخل في الجحيم أي شخص يحمل علامة الختان. ورواية أخرى تقول إن الله يغفر لليهود خطايا كثيرة بسبب الختان. وإنه لن يحاكمهم في نفس الوقت الذي يحاكم فيه غيرهم من الأمم. فالأمم تحاكم في ظلمة الليل، واليهود في وضح النهار، وهؤلاء يتمتعون بنعم لا يحصل عليها غيرهم. وهم وحدهم الذين سيتمتعون بالأفراح والسعادة عند مجيء المسيح. وهناك قول لرابي يهودي: إن الدم الذي نزل من الطفل عند الختان يُحفظ أمام الله. وعندما يأتي يوم الدينونة فإن الله ينظر للدم فيخلص العالم.

ولكن ماذا عن الأطفال الذين يموتون قَبل يومهم الثامن دون ختان؟ قال بعض رجال الدين اليهود بأن الطفل حتى وإن بقي في الحياة لحظة واحدة فإن له نصيب في الحياة الأخرى، خُتن أم لم يختن. وأنكر ذلك غيرهم معتبرين الختان هو أساس الخلاص: فمن خُتن يخلص، ومن لم يُختن لا يخلص. وهذا هو السبب الذي من أجله قرّر التلمود ضرورة ختان الطفل الذي يموت قَبل اليوم الثامن.

وإن كان الختان بتلك الأهمّية، فهل هذا يعني أن كل الصالحين الذين سبقوا إبراهيم في الجحيم؟ حتى يحلوا هذه المشكلة، لجأ رجال الدين اليهود إلى القول بأن أولئك الصالحين قد ولدوا مختونين من أمّهاتهم، دون غلفة، حاملين علامة العهد. وهم يرون أن الله قد أنعم على عدد آخر من الذين ولدوا بعد إبراهيم، فولدوا مختونين، معتبرين ميلادهم هكذا إشارة على اختيار الله لهم وتطهيرهم منذ بداية حياتهم. وتقول إحدى الروايات اليهوديّة أن عدد المختونين يبلغ 13 شخصاً، ولكن هذه القائمة غير ثابتة ونجد في الروايات اليهوديّة الأسماء الآتية: آدم وشيت، وانوخ، ونوح، وشم، وتيره، وملكصادق، ويعقوب، وجاد، ويوسف، وموسى، وبلعام، وصموئيل وداود وأشعيا وأرميا وزروبابل وعوبيد. لا بل أضافوا أن بعض الملائكة خُلقوا مختونين.

اكتسب الختان أهمّية خاصّة وتوسّعاً في القواعد التي تحكمه في ما يدعى العصر التلمودي، أي ما بين القرن الثاني والسابع الميلاديين. ففي التلمود فقرة توضّح سبب أهمّية الختان: إن الختان مهم لأنه يحق إباحة السبت من أجله، ولأن موسى بكل عظمته لم يعفى منه ساعة واحدة (إشارة إلى سفر الخروج الفصل الرابع)، ولأن إبراهيم لم يدعى كاملاً إلاّ بعد أن أتم الختان (إشارة إلى سفر التكوين 1:17)، ولأن لولا الختان لم يكن الله قد خلق العالم. وهذا إشارة إلى أرميا 25:33-26: «هكذا قال الرب: إن لم يكن هناك عهدي مع النهار والليل، ولم أجعل فرائض للسماوات والأرض، فإني أنبذ أيضاً ذرّية يعقوب وداود عبدي». وهم يترجمون هذا النص كما يلي: « هكذا قال الرب: إن لم يكن هناك عهدي نهاراً وليلاً، لم أكن لأجعل فرائض للسماوات والأرض». ويضيف التلمود أن الختان يساوي في قيمته كل أوامر التوراة.

وما زال المؤلفون اليهود المعاصرون يردّدون على مسامعنا هذا الكلام. فالحاخام «آريه كابلان» يقول: «إن الختان قد أعاد إبراهيم وذرّيته إلى وضع آدم قَبل الخطيئة. وقد استطاعت ذرّية إبراهيم أن تكون إناءاً للتوراة بسبب الختان. وهكذا، فإنه من خلال وصيّة الختان أمكن إتمام هدف الخلق». ويرى اليهود أن إتمام الختان له الأولويّة على دفن قريب.

3) التيّار اليهودي الناقد لختان الذكور

أ) لم يمارس اليهود دائماً الختان

توحي لنا نصوص التوراة أن الختان قد بدأ بإبراهيم الذي يُظن أنه عاش في القرن التاسع عشر قَبل المسيح وأن نسله مارس الختان منذ ذاك العهد. ولكن هناك شواهد تبيّن أن يهود مصر لم يكونوا يمارسون الختان بصورة شاملة. فسفر الخروج يخبرنا أن موسى هرب من مصر واتجه إلى مدين حيث تزوّج بصفورة ابنة كاهنها فأنجب منها ولدين، هما جرشوم واليعاز (خروج 15:2-22 و3:18). ثم رجع مع زوجته وابنيه إلى مصر. وفي طريقه إلى مصر ظهر له الله فطلب قتله. فأخذت صفورة صوّانة وقطعت غلفة ابنها ومسّت به رجلي موسى وقالت: «إنك لي عريس دم. فانصرف عنه (خروج 19:4-26). وهذا النص يبيّن أن موسى لم يكن مختوناً، وأن ولديه لم يكونا مختونين في الوقت الذي حدّدته التوراة (اليوم الثامن)، وأن صفورة ذات الأصل غير اليهودي ختنت فقط واحداً من ولديها بصوّانة، وقد يكون الابن البكر. فالنص يتكلم عن رجوع موسى مع ابنيه بصيغة المثنى (خروج 20:4)، بينما يتكلم عن ختان صفورة لابنها بصورة المفرد (خروج 25:4).

ويروي لنا سفر يشوع أن اليهود الذين ولدوا في البرّية بعد خروجهم من مصر لم يختنوا في صغرهم. وقد جاء أمر الله ليشوع بختانهم في البرّية (يشوع 2:5-9).

وتذكر التوراة أن الختان قد منع من قِبَل ملك إسرائيل آحاب (875-853 ق.م) وزوجته إيزابيل. وفي هذا الإطار نقرأ قول إيليّا في سفر الملوك الأوّل: «إني غرت غيرة للرب، إله القوات، لأن بني إسرائيل قد تركوا عهدك وحطموا مذابحك وقتلوا أنبياءك بالسيف، وبقيت أنا وحدي، وقد طلبوا نفسي ليأخذوها» (1 ملوك 9:19-10). وإشارة إلى هذا القول، يقوم اليهود بوضع كرسي لإيليّا كشاهد للختان.

ويروي لنا سفر المكابيين الأوّل أنه «خرج من إسرائيل أبناء لا خير فيهم فأغروا كثيرين بقولهم: هلمّوا نعقد عهداً مع الأمم التي حولنا، فإنّنا منذ انفصلنا عنهم لحقتنا شرور كثيرة» (1 المكابيين 11:1). وبناء على طلبهم، تم منع الختان من قِبَل الملك أنطيوخس (توفى عام 164 ق.م). فترك اليهود الختان ومنهم من ألغى علامة الختان بمد جلد الذكر لاسترجاع الغلفة (1 المكابيين 15:1 و48). وقد قاد رجال الدين ثورة على القوانين التي تمنع الختان وختنوا «بالقوّة كل من وجدوه في بلاد إسرائيل من الأولاد الغلف» (1 المكابيين 46:2). ونجد تيّاراً مماثلاً في القرنين اللاحقين للميلاد ممّا جعل رجال الدين اليهود يتشدّدون في الختان حوالي عام 140 ميلادي ويتمادون في القطع حتى يمنعوا استرجاع الغلفة وإخفاء الختان.

ونحن نجد في بعض نصوص التوراة استعمالاً مجازياً للختان. ففي سفر التكوين يرتبط وعد أرض الميعاد لإبراهيم ونسله بختان الذكر، بينما في سفر تثنية الإشتراع يرتبط هذا العهد بختان القلب (تثنية 5:30-6). وفي فصل آخر نقرأ: «والآن يا إسرائيل، ما الذي يطلبه منك الرب إلهك إلاّ أن تتقي الرب إلهك سائراً في جميع طرقه ومحباً إيّاه، وعابداً الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك [...]. فاختنوا غلف قلوبكم، ولا تقسّوا رقابكم بعد اليوم» (تثنية 12:10 و16). وفي سفر الأحبار يتوعّد بإهلاك وإذلال قلوب اليهود الغلف بسبب إثمهم (الأحبار 38:26-41). وسفر أرميا يقول إن الله يعاقب على السواء غير المختونين في الجسد من الأمم واليهود المختونين في الجسد ذوي القلوب الغلف (أرميا 24:9-25). وقد استعملت التوراة كلمة «غرلة» متصلة مع كلمة الشفاه. فموسى يقول عن نفسه إنه «عرل شفتيم»، وقد تُرجمت بثقيل اللسان، أي يتعثر بكلامه (الخروج 12:6 و30). وأرميا يستعمل كلمة «غرلة» متصلة بكلمة الآذان: «من ذا أكلم ومن أشهد عليه فيسمعوا. ها إن آذانهم غلف فلا يستطيعون الإصغاء» (أرميا 10:6).

هناك إذاً بجانب ختان غلفة الذكر ختان الشفتين وختان القلب وختان الآذان. وهو تعبير عن تطهير النفس وعدم اقتراف الإثم بتلك الأعضاء. وقد يكون هذا تطوّراً لاحقاً للختان الجسدي، أو سابقاً له، أو تيّاراً فكريّاً موازياً له يرفض النظر إلى المظاهر الخارجيّة.

ب) الجدل ضد الختان عند المجدّدين اليهود الألمان

بعد الثورة الفرنسيّة عام 1789، كان في أوروبا توجه عام يهدف إلى خلق مجتمع مدني تُلغى فيه الحواجز الطائفيّة وتجعل من الأفراد مواطنين متساوين في الحقوق. فقد أبدت الحكومات استعداداً لدمج الطوائف الدينيّة كاليهود. وكان مطلوباً من تلك الطوائف الدينيّة الخروج من تقوقعها لكي يستفيد أفرادها من الحقوق التي تهبها الحكومات. وكان نابليون شخصياً معادياً لهذا التقوقع الطائفي إذ فرض على اليهود كسر الغيتو اليهودي للانفتاح على الخارج في المناطق التي وقعت تحت سيطرته.

وضمن هذا الاتجاه كان ميلاد التيّار المجدّد اليهودي الذي كان يدعو إلى القبول المتبادل بين اليهود وغير اليهود. ففي خطاب افتتاح أوّل «هيكل يهودي مجدّد» في عام 1810 في مدينة «سيسين» الألمانيّة التي كانت تحت سيطرة الجيش النابليوني، اعتبر «إسرائيل جاكوبسون» أن الطقوس والعادات الدينيّة اليهوديّة معادية للعقل وهي إهانة للإنسان العاقل. وطالب طائفته بالتجديد الديني وبث مبادئ أكثر سلامة. وطالب في نفس الوقت من المسيحيّين أن يتقبّلوا اليهود في مجتمعهم وفي أعمالهم المهنيّة.

وقد قاد هذا الفكر التجديدي عند اليهود إلى التصدّي لتقاليد طائفتهم الدينيّة معتبرين أن كل تقليد لا يتفق مع العقل والتقدّم العلمي يجب إبعاده. ومن بين تلك التقاليد الختان. وكانت هذه العادة ممارسة بصورة عامّة بين اليهود لسببين: الأوّل هو اعتقادهم أن الختان أمر إلهي موحى ومُلزِم، والثاني خضوعهم لنظام الطوائف الذي يسيطر عليه رجال الدين. وكان هؤلاء يفرضون الختان فرضاً، وكل من تساوره نفسه بعدم ختان ابنه كان يستبعد من الطائفة. ومع تزعزع سلطة رجال الدين اليهود، أتيحت الفرصة لبعض اليهود طرح تساؤلات حول معنى الوحي ولزوم تطبيقه، بما في ذلك الأمر الإلهي بالختان. وقد فُتح النقاش حول الختان فعلاً عام 1842 في مدينة فرانكفورت الألمانيّة من قِبَل مجموعة يهوديّة علمانيّة أطلقت على نفسها «أصدقاء التجديد»، وهو تعبير يوازي تعبير «أصدقاء النور» الذي كان يأخذ به مناصرو التيّار الحر البروتستانتي ذو الصبغة العالميّة. وكان من بين مطالب «أصدقاء التجديد» حذف الختان كعلامة تمييز بين الناس. فوضعوا في برنامجهم اعتبار الختان أمر غير مُلزِم لليهودي. إلاّ أنهم حذفوا هذه النقطة لاحقاً تحت ضغط رجال الدين اليهود. وقد اقترح هؤلاء المجدّدون في منشور دون ذكر اسم المؤلف بأن يُستَبدَل الختان الدموي بطقس ديني للذكر والأنثى أطلق عليه تقديس اليوم الثامن، الهدف منه إدخال كل من الذكر والأنثى في العهد وإعطاؤه اسماً يهوديّاً. وكان بعض المجدّدين لا يخفون بأن قصدهم كان إلغاء الاعتقاد بديانة ذات وحي وإلغاء الفروق بين الأديان.

وبعد هذا بقليل، وعلى أثر حوادث موت أطفال يهود نتيجة للختان، قامت إدارة الصحّة في مدينة فرانكفورت بنشر تعليمات بأنه على «اليهود المحليين الذين يريدون ختان أطفالهم» اللجوء إلى أشخاص مؤهّلين طبّياً وإدارياً. وقد كان القصد من هذه التعليمات ظاهرياً تفادي المشاكل الصحّية للختان، ولكن في حقيقتها أخِذَت تحت تأثير التيّار المجدّد المعادي للختان بقصد إضعاف سلطة رجال الدين. وقد فُسِّرَت فعلاً من قِبَل هذا التيّار بأن الختان أمر متروك لإرادة أهل الأطفال وليس لإرادة السلطة الدينيّة اليهوديّة، ممّا أدّى إلى ترك بعض اليهود أولادهم دون ختان. وقد حاول الحاخام «سلمون ابراهام ترير» الحصول من حكومة مدينة فرانكفورت على تعديل للتعليمات المذكورة بحيث لا تُفسَّر بالمعني الذي يريده المجدّدون. إلاّ أن الحكومة أجابت بأن القصد من تلك التعليمات لم يكن إلغاء أمر إلهي، رافضة التدخّل في موضوع يخص الحرّية الفرديّة. وبعد أن رفض بعض اليهود ختان أبنائهم، رجع الحاخام للحكومة طالباً الحق في فصلهم من الطائفة اليهوديّة، مبيّناً أن اليهودي الذي يرفض ختان ابنه يعاقب حسب القوانين اليهوديّة بالموت. ولكن الحكومة أجابت بأنها تأسف أن يقوم بعض الأفراد اليهود في الإساءة للطائفة اليهوديّة، ولكنّها في الوقت نفسه تأسف لعدم إمكانيّة أخذ الإجراء الذي يطلبه الحاخام. عندها، أرسل الحاخام المذكور رسالة إلى 80 حاخاماً يهوديّاً أوروبياً طالباً أخذ موقف ضد حركة المجدّدين. وقد جاءت أكثر الأجوبة مؤيّدة لموقف هذا الحاخام، معتبرة اليهود الذين يرفضون الختان مرتدّين يجب إقصائهم عن الطائفة اليهوديّة وقطع كل علاقة معهم ورفض زواجهم أو دفنهم في المقابر اليهوديّة. وهكذا بقي الختان شرطاً أساسياً للانتماء للطائفة اليهوديّة. ولكن ذلك أدّى إلى انشقاق الطائفة اليهوديّة.

وقد امتد نقد الختان من ألمانيا إلى فينا حيث قام ما لا يقل عن 66 طبيباً يهوديّاً في عام 1866 برفع عريضة لمجمع الطائفة اليهوديّة هناك يعارضون فيها ممارسة الختان. ولكن رجال الدين اليهود اختلفوا فيما بينهم بسبب عواقب إلغاء الختان إذ منهم من يعارض تزويج امرأة يهوديّة لرجل غير مختون. وفي عام 1871 جاء القرار الآتي من المجمع اليهودي المنعقد في مدينة «اوجسبورج»: «إذ يقر المجمع أنه لا شك في المعنى السامي والهام للختان في اليهوديّة، إلاّ أنه يقر أيضاً بأن الطفل الذي يولد من أم يهوديّة ولم يختن لأي سبب كان هو طفل يهودي ويجب أن يعامل كذلك في كل المواضيع المتعلقة بالطقوس الدينيّة». وقد جاء هذا الموقف رداً على تزايد عدد الأطفال اليهود غير المختونين في ألمانيا والنمسا.

ج) الجدل الحالي حول الختان في الولايات المتحدة

انتقل هذا التيّار المجدّد من ألمانيا مع المهاجرين اليهود إلى الولايات المتحدة حيث اختلف رجال الدين اليهود المجدّدين في فيليديلفيا عام 1869 فيما إذا كان ضرورياً ختان من يتحول لليهودية. فبينما رأي البعض عدم ضرورة الختان، إلاّ أن القرار كان بضرورة ختانه لأنه «يُدخل في اليهوديّة أموراً كثيرة غير طاهرة» ولأن الختان «يحمي اليهوديّة من تلك النجاسات». وقد انقلب الوضع عام 1892 حيث قرّر رجال الدين اليهود المجدّدين عدم فرض الختان على من يتحوّل إلى اليهوديّة.

إلا أن الختان سرعان ما انتشر في الولايات المتحدة بين المسيحيين الأمريكيّين وأصبح يمارس بصورة روتينيّة على الأطفال حديثي الولادة قَبل خروج الأم من قسم الولادة في المستشفيات. وقد خُتن اليهود بين من ختن هنالك. وتدريجيّاً لم يعد سبب للجدل الذي أوجده المجدّدون الألمان ضد الختان ضمن خطتهم في الاندماج مع محيطهم. فقد اختلف الأمر في الولايات المتحدة إذ أصبح الختان هو العادة وعدم الختان هو الشذوذ. وحاول رجال الدين اليهود الاستفادة من تمكن عادة الختان الطبّي لإدخال الختان الديني. فقاموا بتأهيل خاتنين دينيين في مدارس خاصّة لإعطاء الختان الطابع الديني ممّا يساعد على استعادة مركزهم ودورهم الذي فقدوه في القرن الماضي. وقد ساعد على ذلك كون أن الولايات المتحدة تعترف بالزواج الديني. فجعل رجال الدين اليهود عقد زواج أعضائهم مرتبطاً بالختان.

وقد أدّت الأحداث المفجعة التي ألمّت باليهود في الحرب العالميّة الثانية في ألمانيا وخلق دولة إسرائيل على انتعاش الختان. فهناك من يرى فيه رباط مع اليهوديّة. وقد قرّرت الجمعيّة العموميّة لحاخامات أمريكا عام 1979 بأن الختان هو وصيّة واجبة لإدخال الطفل في العهد، وأن الختان وحده لا يكفي لدخول العهد بل يجب أن يصاحبه الصلوات الطقسيّة وأن تجرى على قدر الإمكان من قِبَل شخص متخصّص عنده معرفة دينيّة وطبّية، أي الخاتن.

غير أن الوضع بدأ يتحول إذ أخذ المسيحيّون يعارضون الختان بسبب مضارّه الطبّية والنفسيّة، ولحق بهم بعض اليهود. ورغم عدم تعرّض المسيحيّين للفكر الديني إلاّ قليلاً، فإن توجيه النقد للختان على أساس مضاره يؤثر أيضاً على ممارسة الختان الديني بين اليهود ذاتهم. فإذا ما فقد الختان أهمّيته كعادة اجتماعيّة، ولم يعد له سبب طبّي يبرّره، ولم تعد شركات التأمين تغطي تكاليف العمليّة الطبّية، فإن عدد غير المختونين بين غير اليهود سينقص. وهذا يؤدّي إلى انخفاض المحيط المشجّع للختان بين اليهود إذ لن يعود هناك ختان لأسباب طبّية بل فقط ختان لأسباب دينيّة. وهذا يعني أن اليهود الذين كانوا يختنون أطفالهم لأسباب طبّية أو اجتماعيّة أكثر ممّا لأسباب دينيّة سوف يفقدون السبب الذي من أجله سيختنون أطفالهم. وإذا ما أغلقت نافذة الختان الطبّي في الولايات المتحدة، فإن ذلك يعني أن رجال الدين سوف يفقدون القاعدة التي كانوا يراهنون عليها كما أنه يعني تجدّد الجدل حول الختان بين اليهود كما كان عليه في بداية عصر المجدّدين اليهود الألمان. وهذا فعلاً ما بدأ يحصل في الولايات المتحدة. فهناك عدد غير قليل من اليهود الذين يشاركون في هذا الجدل. وقد زاد هذا النقد ضد الختان حدّة دخول النساء ساحة المعركة ومطالبتهن بالمساواة مع الرجال. ثم جاء تقدّم علم النفس ليدعم موقف التيّار المعادي. وقد أجمل «هوفمان» في ثلاث نقاط الجدل حول الختان بين اليهود في الولايات المتحدة:

- على المستوى الطقسي، يُعتبر الختان مخالفاً لمبدأ المساواة بين الذكر والأنثى. فالختان هو أحد الطقوس التي تؤهل الطفل الذكر في دخول حلقة الرجال المسيطرين على المجتمع. وفي عصرنا الذي يطالب بالمساواة، أصبحت النظرة إلى ختان الذكور نظرة سلبيّة. ممّا جعل البعض يحاول إيجاد مخرج لهذه المشكلة بخلق نظام ختان رمزي للبنت.

- على المستوى الطبّي، لم يَعد للختان تلك الأهمّية الطبّية التي كانت تظن سابقاً. وبما أنه لا فائدة صحّية له فإنه لا حاجة له.

- على المستوى الأخلاقي، يُنظر حاليّاً للختان كعمليّة تشويه جسديه تجرى على الأعضاء الجنسيّة لطفل لا يستطيع الدفاع عن نفسه. ممّا يعني أن الختان أصبح عملاً منافياً للأخلاق.

د) انتقال نقد الختان إلى إسرائيل

بالإضافة إلى عدد من اليهود غير المختونين القادمين من الاتحاد السوفييتي، هناك في إسرائيل عشرات من أهالي الأطفال اليهود الذين يرفضون ختانهم. فهم يعتقدون بأنه ليس من الضروري بتر غلفة الطفل حتى يصبح يهوديّاً إذ إن اليهودي هو كل من يولد من أم يهوديّة. وقد أسّس بعض نشطاء حقوق الإنسان في إسرائيل جمعيّة تدعى «جمعيّة مكافحة الختان في إسرائيل وفي العالم».

هذه الجمعيّة تعتبر الختان عمليّة بدائيّة وهمجيّة. وقد رد عليهم طبيب ولادة إسرائيلي في مستشفى «شآري تصيديق» في القدس بأن الختان يحمي من الأمراض ومفيد للنظافة. وتجيب الجمعيّة بأن عدد الأطفال الذين يموتون بسبب الختان أكبر من عدد الأطفال الذين قد ينجون من الموت بسبب الأمراض التي قد يحمي منها الختان. والختان ليس ضروريّاً للمحافظة على النظافة، فيكفي غسل الجسم للوصول إلى هذه الغاية. وتضيف بأن موسى ابن ميمون يرى في الختان وسيلة لإضعاف اللذّة الجنسيّة (انظر الملحق 25). كما أن الختان عمليّة مؤلمة للأطفال تجرى عليهم دون موافقتهم وتسبّب لهم اضطرابات عقليّة. والذين يقومون بالختان يحتفلون ويفرحون من حول الطفل المختون دون أن يعيروا أي اهتمام لألمه.

ومعارضة الختان في إسرائيل ليس بالأمر البسيط إذ إن غير المختون لا يُدفن في المقابر اليهوديّة. والأهالي الذين يرفضون ختان أطفالهم يلقون عنتاً كبيراً من قِبَل أقاربهم وأصدقائهم الذين يقطعون العلاقات معهم. وهؤلاء الأهالي يلتقون مرّة كل أسبوعين لدراسة كيفيّة تكثيف كفاحهم ضد الختان. هذا وقد انضم لهذه الحملة المغني والناقد الأدبي الإسرائيلي «مناحيم بن» الذي يقول بأنه ختن ابنه على طريقته وذلك من خلال ختان القلب كما جاء في التوراة.

وقد تصدّى لهذه الحملة رئيس الحاخامات الإسرائيلي «الياهو باكشي دورون» الذي قال بأنه كان يعلم أن هذا سوف يحدث في آخر الأمر. فقد استولى بغض الذات على الشعب. وفكرة أن كل ما هو يهودي هو شيء بغيض امتد حتى إلى الختان علامة العهد. ويضيف أن الأضرار التي يدّعيها معارضو الختان لا تسمح بالشك في عادة قديمة. ويتساءل: «من هو الذي يقرّر بأن أمراً ما بدائي وقديم ومؤلم؟ فالحمد لله أن الشعب اليهودي قد عاش على هذه الوتيرة منذ أجيال. وحتى أن كان صحيحاً أن الختان ينقص اللذّة الجنسيّة، فهذا ليس مصيبة كبرى».

وقد حاولت في يناير 1998 جمعيّة يهوديّة معارضة للختان في إسرائيل اسمها «الجمعيّة المعارضة لبتر الأعضاء الجنسيّة للأطفال» الحصول على قرار من المحكمة الإسرائيليّة العليا يجعل من ختان الذكور مخالفاً للقانون الخاص بكرامة الإنسان وحرّيته، ويفرض إجراءه في المستشفيات مثله مثل العمليّات الجراحيّة الأخرى بعد الحصول على موافقة خطية من الأهل. وتطلب الجمعيّة من المحكمة أن تفرض مناقشة هذا الأمر على وزارتي الصحّة والشؤون الدينيّة، والمدّعي العام والهيئة الخاصّة بمراقبة الخاتنين. وقد قَبلت المحكمة دعوى الجمعيّة، ممّا أزعج المدّعي العام الذي اعتبر بأنه من غير المعقول أن تكون إسرائيل هي الدولة والوحيدة في العالم التي تمنع ختان الذكور. غير أن المحكمة عادت ورفضت القضيّة في مايو 1999 دون تقديم أسباب لذلك الرفض، مكتفية برد الحكومة.

4) عمليّة الختان عند اليهود

أ) الأشخاص الذين يخضعون للختان

القاعدة الأساسيّة في التوراة هي أن يتم ختان كل مولود ذكر يهودي في يومه الثامن. وقد طرحت هذه القاعدة البسيطة عدّة مشاكل، أوّلها من هو اليهودي؟ وهل يختن الذكر إذا وقع موعد الختان يوم سبت؟ وهل هناك إمكانيّة لتأخير أو ترك الختان في حالة المرض وخطر الموت؟

من هو الذي يختن؟

الختان علامة انتماء للشعب اليهودي وعلامة عهد بين الله وهذا الشعب. لذا كان لزاماً تعريف من هو اليهودي.

حسب التعاليم اليهوديّة، اليهودي هو من ولد من أم يهوديّة مهما كان دين والده. وإذا أصبحت الأم يهوديّة قَبل ميلاد الطفل، حتى وإن كان في زمن الحبل، فإن طفلها يصبح يهوديّاً بالتبعيّة. أمّا إذا أصبحت يهوديّة بعد ولادته، فيجب أن يحوّل الطفل يهوديّاً قبل أن يختن. والشريعة اليهوديّة لا تعترف بالتبنّي. ولكن في إسرائيل هناك قانون يسمح به. وكذلك الأمر في دول أخرى. فإذا تبنّت عائلة يهوديّة طفلاً غير يهودي، فإنه يصبح يهوديّاً بالتبعيّة ويختن.

وقد كان هناك جدل عام 1864 في «نيو اورليانز» حول ختان أطفال من أب يهودي وأم غير يهوديّة. وقد قرّر أحد الحاخامات اليهود بأن ذلك غير مسموح به. وقد أيّده في ذلك الحاخامات اليهود الأوروبيون. إلاّ أن الحاخام «تسفي هيرش كاليشر» أيّد ختان الأطفال غير اليهود عموماً، والأطفال من أب يهودي خاصّة، لأن التوراة في رأيه لجميع البشريّة. وقد خص بها اليهود قديماً بسبب حالة الشعوب في ذاك الوقت. وعليه يجب إجراء كل ما يمكن أن يشجّع الآخرين لقبول التوراة. وبما أن الخوف من الختان على كبر قد يكون مانعاً لتحوّل البالغين لليهوديّة، لذلك ينصح بإجراء الختان على الأطفال الذين هم من أب يهودي، إذ إنهم من بذر يهودي. وهكذا يسهّل عليهم التحوّل إلى اليهوديّة عندما يكبرون.

يوم الختان

تفرض التوراة الختان في اليوم الثامن. فإذا تم الختان في اليوم السابع بدلاً من اليوم الثامن لا يعتبر هذا الختان ختاناً بل جرحاً كغيره من الجروح والخاتن يأثم. وقد طُرح هذا الموضوع خاصّة في أيّامنا في الولايات المتحدة إذ إن كثيراً من اليهود يقومون بختان أولادهم قبل أن يتركوا المستشفى إمّا لأسباب اقتصاديّة لأن شركات التأمين تغطي مثل هذه المصاريف بعكس الختان الذي يتم من قِبَل خاتن، وإمّا تهرباً من الطقس الديني الذي فقد معناه عند كثير من اليهود. يؤكد المؤلفون اليهود أن مثل هذا الختان لا قيمة دينيّة له إلاّ إذا تم إنزال نقطة دم من حشفة الذكر لاحقاً. ولكن هناك حالة يختن فيها الطفل يوم ولادته إذا ما ولدت امرأة طفلاً ثم أصبحت يهوديّة في نفس اليوم. حين ذاك يختن الطفل في يوم ولادته. أمّا إذا تحوّلت الأم إلى اليهوديّة ثم ولدت ابنها، فإن ختان الطفل يتم في يومه الثامن كالأطفال اليهود.

وتتشدّد التوراة على ضرورة احترام السبت وتعاقب على استباحته بالقتل. ولكن رجال الدين اعتبروا الختان أكثر أهمّية من السبت باعتبار أن الأمر الإيجابي (يجب أن يختتن) يمر قَبل الأمر السلبي (لا تعمل يوم السبت). فإذا وقع موعد الختان يوم السبت، يحق لليهودي إجراء عمليّة الختان فيه، كما يحق له أن يجري كل التحضيرات اللازمة للختان. فيحق مثلاً غسل الطفل وقطع الخشب لعمل الفحم الضروري لصياغة سكين الختان. ويتم الختان أيضاً في اليوم الثامن حتى وإن وقع في يوم الغفران أو غيره من الأيّام المقدّسة. ولكن ماذا لو وقع اليوم الثامن للختان في يوم سبت، ولكن حتى يتمكن الحاخام من المجيء لبيت الطفل عليه أن يسوق سيّارته. فهل يؤخّر الختان ليوم لاحق حتى لا تخرق حرمة السبت أم نعتبر أمر الختان أهم من السبت ونختن فيه؟ هناك من طلب من الخاتن أن يحضر قَبل السبت، ولكن هناك أيضاً من يسمح للحاخام أن يسوق في يوم السبت وذلك لأن كثيراً من اليهود زاغوا عن احترام أمر الختان في اليوم الثامن.

ورغم وضوح نص الكتب المقدّسة اليهوديّة بضرورة الختان في اليوم الثامن، إلاّ أن رجال الدين اليهود دخلوا في متاهات حسابيّة غريبة. فالمشنا تقول إن الختان يتم في اليوم الثامن أو التاسع أو العاشر أو الحادي عشر أو الثاني عشر بعد الولادة. فالختان في اليوم الثامن هو الوقت الاعتيادي. أمّا إذا ولد الطفل عند الشفق، فإنه يختن في اليوم التاسع. وإذا ولد عند الشفق مساء السبت، فإنه يختن في اليوم العاشر (أي يوم الأحد). وإذا وقع عيد بعد السبت، فإنه يختن في اليوم الحادي عشر (أي يوم الاثنين). وإذا وقع يومي عيد رأس السنة بعد السبت، فإنه يختن في اليوم الثاني عشر (أي يوم الثلاثاء). وسبب تلك الحسابات المعقّدة هو لأنه لا يحق خرق حرمة السبت والأعياد إلاّ إذا وقع اليوم الثامن بصورة أكيدة في ذلك اليوم. ولمعرفة متى يكون الطفل في يومه الثامن ينصح خاتن يهودي تسجيل وقت الميلاد والوقت الرسمي لغروب الشمس في المكان الذي ولد فيه الطفل بدقّة وعرض الأمر على رجل الدين اليهودي لكي يقرّر ذلك. وإذا ولد طفل نتيجة عمليّة قيصريّة، فإن الختان يجرى في اليوم الثامن من ولادته. أمّا إذا وقع هذا اليوم يوم سبت أو عيد، فإن الختان يؤخّر لبعد السبت أو العيد.

ويجادل اليهود حول سبب الختان في اليوم الثامن. والسبب الأوّل الذي يذكرونه هو أن الله أمر بذلك كما رأينا. وتذكر كتب المدراش أسباباً أخرى. منها وجود سبت ضمن هذه الأيّام، فيعيش الطفل سبتاً قبل أن يمر بالختان. ويعتبر اليهود السبت رمزاً للملكة التي تسبق مجيء الملك. فقبل أن تقابل الملك أي الله من خلال عمليّة الختان، عليك أن تمر بالملكة لتسلم عليها. وقد حاول موسى بن ميمون إعطاء أسباب أكثر عقلانيّة:

- لو ترك الصغير حتى يكبر، قد لا يفعل.

- الطفل لا يتألم كتألم الكبير للين جلده، ولضعف خياله، لأن الكبير يستهول ويستصعب الأمر الذي يتخيّل وقوعه قبل أن يقع.

- إن الصغير يتهاون والده بأمره عند ولادته لأنه لم تتمكن إلى الآن الصورة الخياليّة الموجبة لمحبّته عند والديه. فلو ترك سنتين، أو ثلاث، لكان ذلك يوجب تعطيل الختان لشفقة الوالد ومحبّته له.

- كل حيوان عندما يولد ضعيف جدّاً وكأنه إلى الآن في البطن إلى انقضاء سبعة أيّام. وكذلك الأمر في الإنسان (انظر الملحق 25).

تأخير وإلغاء الختان في حالة المرض وخوف الموت

تفرض التوراة الختان في اليوم الثامن، ولكن رجال الدين اليهود يسمحون في حالات مرض الطفل بتأخير الختان حتى يشفى. ويوضّح التلمود بأنه حتى وإن كان على الطفل حرارة لحظة، فإن ختان الطفل يؤخّر إلى يومه الثلاثين. وخلال مدّة بقائه غير مختون لا يحق للطفل أن يأكل من فريضة الفصح أو يمسح بزيت الفصح. ولكن هناك من حسب هذا المنع بداية من اليوم الثامن. وهناك من يرى أنه إذا كان المرض شاملاً يجب أن يجرى الختان سبعة أيّام بعد شفائه. أمّا إذا كان المرض بسيطاً، فيجرى حالاً بعد شفائه.

وهناك جدل بين رجال الدين اليهود حول ضرورة ختان طفل توفى أخوه بسبب الختان. فمنهم من يرى بأنه إذا توفى أخوان، فإن الأخ الثالث لا يختن. وبعضهم يرفع هذا العدد إلى ثلاثة. وكذلك الأمر إذا مات أبناء خالة الطفل. ويذكر تلمود أورشليم حادثة موت ثلاثة اخوة متلاحقين. وعندها نصح رابي ناتان بأن يؤخّر ختان الطفل الرابع ثم تم ختانه فبقي على قيد الحياة فسمّي باسمه.

ونشير إلى أن الختان قد يتم في سن متأخّرة أو حتى بعد موتهم كما هو الأمر مع اليهود الذين هاجروا من الاتحاد السوفييتي إلى إسرائيل.

العبيد ومن يعتنق اليهوديّة والعدو

تفرض التوراة على اليهودي أن يختن عبيده. وكانت العادة أن يتم ختان العبيد حالاً بعد شرائهم. ولكن لا يمكن ختانهم يوم السبت إذ إن خرق السبت لا يسمح به إلاّ لختان طفل يكون يومه الثامن يوم سبت.

كما أن من يريد التحوّل إلى اليهوديّة، عليه أن يختتن. نقرأ في سفر يهوديت: «ورأى أحيور كل ما فعل إله إسرائيل فآمن بالله إيماناً راسخاً وختن لحم غلفته فضم إلى بيت إسرائيل إلى اليوم» (يهوديت 10:14). وقد فرض اليهود الختان على الشعوب التي استطاعوا أن يسيطروا عليها. ففي سفر أستير نقرأ أنه بعد تتويج أستير ملكة في فارس تحوّل عدد كبير من الناس إلى اليهوديّة خوفاً من سطوة اليهود (أستير 17:8) الذين انتقموا من أعدائهم بحد السيف (أستير 5:9). ويذكر المؤرّخ اليهودي «يوسيفوس» هذا الحدث قائلاً إن كثيراً من الشعوب ختنوا أنفسهم خوفاً من اليهود وهكذا استطاعوا النجاة. كما يذكر بأن الكاهن الأكبر «هيركانوس» قد فرض على الأدوميين بعد إخضاعهم الختان واحترام القوانين اليهوديّة كشرط لبقائهم في ديارهم. وبما أنهم كانوا متمسّكين بأرضهم وافقوا على ختانهم. وفي سياق مشابه يذكر بأن «اريستوبولوس» قد فرض نفس الشرط على الإيطوريين. ويسرد هذا المؤرّخ كيف أن نبيلين من رعايا الملك «اغريبا» طلبا اللجوء إلى صف اليهود. وقد أشترط عليهما اليهود لمنحهم حق الإقامة أن يختنا. إلاّ أن «يوسيفوس» ذو الميول الرومانيّة رفض إخضاعهم للختان مبدياً رأيه بأن لكل شخص الحق في أن يعبد الله حسب ضميره.

من ولد أو تهوّد مختوناً

يرى التلمود أن من ولد مختوناً، أي من دون غلفة، يجب أن ينزل منه نقطة دم من حشفته كعلامة عهد. ولكن في هذه الحالة لا يحق التعدّي على السبت. ويقول كاتب يهودي حديث إن ولادة طفل مختوناً من بطن أمّه أمر نادر جدّاً فقد تكون الغلفة ملتصقة بالحشفة. ففي هذه الحالة ينتظر الخاتن أن يكبر الطفل حتى تتطوّر الغلفة. ثم يجري له الختان. وإذا لم تتطوّر الغلفة كالعادة يسلخ الخاتن ما وجد منها. وإذا لم يجد شيئاً، أنزل من الحشفة نقطة دم. وعلى كل حال لا يمكن إجراء مثل تلك العمليّات يوم السبت.

وإنزال نقطة دم من حشفة الذكر تتم أيضاً على من تهوّد مختوناً، أو من تم ختانه في المستشفى قَبل موعد الختان المحدّد في الشريعة، أو بأسلوب غير مقبول مثل الختان بآلة لا تسمح بإنزال الدم، أو من يتم ختانه من قِبَل شخص لا يُعترف به. فمثلاً الأرثوذكس لا يعترفون بختان جرى على يد خاتن غير أرثوذكسي أو غير متديّن.

ختان الخنثى ومن له غلفتان

لقد تكلمت المشنا عن إجراء الختان يوم السبت على من كانت معالم عضوه التناسلي ذات شك أو من كان عنده عضو تناسلي ذكر وعضو تناسلي أنثى. فهناك قول بأنه لا يحق استباحة السبت من أجل ختان مثل هذا الطفل. وهناك قول آخر يسمح بذلك. وقد اعتمد رافضو ختان الخنثى يوم السبت على سفر التكوين 14:17: «وأي أغلف من الذكور، لم يختن في لحم غلفته» وهذا العبارة تعني في نظرهم من هو كامل الذكورة.

ونجد في التلمود ذكراً لمن عنده غلفتان. وهذه العبارة غير واضحة وقد تعني من له ذكران. يقول التلمود إن من له غلفتان يختن فقط في النهار وفي الوقت المحدّد خلال النهار. أمّا إذا فات وقته، فإنه يختن في النهار أو في الليل.

ب) القائمون بالختان ومن يحضره

الخاتن

يرى التلمود أن على الأب مسؤوليّة قرار ختان ابنه اعتماداً على النص التوراتي الذي يقول «فأخذ إبراهيم إسماعيل ابنه وجميع مواليد بيته [...] فختن لحم غلفتهم في ذلك اليوم عينه، بحسب ما أمره الله به» (التكوين 23:17). فالأمر موجّه لإبراهيم وليس لأم الطفل. وإذا لا يريد الأب أخذ قرار ختان ابنه، فللأم أن تقرّر ذلك. وإذا لم يقم الأب والأم بواجبهما، فإن المحكمة الحاخاميّة هي التي تقرّر ذلك. وإذا لم يكن هناك أحد، فمسؤوليّة الختان تعود لأي فرد من جماعة اليهود.

وللأب ذاته أن يقوم بإجراء العمليّة. ولكن بإمكانه أن يوكل أحداً بختان ابنه إذا كان لا يعرف كيف يختن. فيقوم بالختان الخاتن. وبعض الخاتنين يسلمون السكين إلى أب الطفل حتى يوضّحوا له أن الختان من مسئوليته، ثم يرجع الأب السكين إلى الخاتن تعبيراً عن توكيله بالختان. ولكن البعض الآخر يوضّح الأمر للأب شفهياً قَبل قيامه بالختان. وهناك أيضاً من يسلم السكين للام لكي تضعها تحت مخدّتها في الليلة التي تسبق الختان. ومن غير الواضح السبب الذي من أجله يتم هذا.

يذكر سفر الخروج أن صفورة، زوجة موسى، أخذت صوّانة وقطعت غلفة ابنها (الخروج 25:4). ولكن رجال الدين اليهود فسّروا هذا النص بأن صفورة لم تقم بعمليّة الختان بل جعلت غيرها يستعمل الصوّانة للختان. وفي أيّامنا يسمح اليهود المجدّدون للنساء بإجراء العمليّة. أمّا اليهود الأرثوذكس فلا يسمحون بذلك إلاّ في حالة عدم وجود أي رجل مؤهّل ومستعد لإجراء العمليّة.

ليس من الضروري أن يكون الخاتن رجل دين. فهناك أطبّاء يهود تدرّبوا علي الختان الديني. وقد دار جدل حول ما إذا كان من المفضّل صحّياً تسليم الطفل إلى طبيب أم إلى خاتن. فقد يكون للخاتن اليهودي خبرة ولكن تنقصه المعرفة الطبّية في حالة حدوث مضاعفات. ولكن هناك أيضاً من يرى أن الطبيب قلما يعير الختان أهمّية كبيرة كما يعيرها الخاتن. فالطبيب يقوم بالختان عامّة في الولايات المتحدة في آخر عمله، فيختن عدّة أطفال بالتوالي في غرفة مغلقة بقصد إضافة ربح إلى ربحه. بينما الخاتن يقوم بتلك العمليّة في حضور الأهل والمدعوّين ممّا يجعله أكثر حرصاً في عمله. ويقول مؤلف يهودي بأنه في حالة عدم وجود خاتن، فإنه يسمح باللجوء إلى طبيب لإجراء الختان. ولكن يجب أن يكون الطبيب يهوديّاً وعلى علم بعمليّة الختان الديني والصلوات المرافقة وعليه أن يتصرّف بالاحترام اللائق بهذا الطقس الديني. والعادة أن يصاحب الطبيب حاخام يشرف على إجراء العمليّة ولكن إذا وُجد خاتن، فعلى الحاخام أن يؤكد على ضرورة إجراء الختان من قِبَل الخاتن.

هل يحق لغير اليهودي ختان اليهودي؟ يجيب التلمود أنه لا يحق لأحد أن يختن طفلاً إلاّ إذا كان هو مختوناً. وهذا ينطبق على اليهودي وغير اليهودي. ويضيف بأن لليهودي الحق في ختان السامري، أمّا السامري فلا يحق له ختان اليهودي. ويقول مؤلف يهودي حديث إنه لا يحق لغير اليهودي أو لليهودي غير المتديّن أن يقوم بختان الطفل، ومن المفضّل أن يُترك الطفل دون ختان ممّا أن يُختن من قِبَل شخص كهذا. وإذا تم الختان من قِبَلهم، فيجب تصحيح الختان بإنزال نقطة دم من ذكر الطفل.

السندك والعرَّابين والجمع

الختان في الكتاب المقدّس اليهودي هو حدث عائلي يقوم به الأب بحضور أفراد العائلة بما فيهم الأم. ثم أصبح حدثاً جماعيا يتم ضمن «الخفروت»، وهي اجتماعات للأكل والشرب للاحتفاء بالسبت أو بالأعياد والمناسبات الأخرى كالزواج والولادة والوفاة على غرار المآدب في المجتمع الوثني اليوناني والروماني. وهذه الاجتماعات كانت مفتوحة للجميع، رجال الدين والعلمانيين على السواء، ولكنّها ممنوعة «للنساء والعبيد والصغار».

وانتقل بعد ذلك الختان إلى الكنيس (أي المجمع). ولم يكن هذا المكان يلعب دوراً دينيّاً. ممّا سمح بحضور المرأة. وبعد سيطرة رجال الدين على مؤسّسة الكنيس وتحويلها إلى مؤسّسة دينيّة سارعوا باستبعاد المرأة من الختان. وهناك نص لرجل دين يهودي ألماني توفى حوالي عام 1285 يقول فيه إن على كل شخص يخاف الله أن يخرج من المعبد إذا حضر ختان طفل على حضن أمّه، حتى وإن كان الخاتن هو أب الطفل. وهو يعتمد على قول للتلمود: من الأفضل أن تسير خلف أسد ممّا أن تسير خلف امرأة. كما يذكر قول للنبي صموئيل: «إن الطاعة خير من الذبيحة» (1 صموئيل 22:15). ويشير أن النساء كانت تجلس في الهيكل في مكان منفصل حتى لا تشوش فكر الكهنة باستثارتهم جنسيّاً.

وقد سن رجال الدين اليهود في العصور الوسطى إنه لا يحق للام حتى إيصال الطفل إلى الكنيس، بل توكل امرأة بذلك، أطلق عليها اسم «بعلة بريت» (أي خادمة العهد). وهذه لا تدخل الكنيس بل تسلمه إلى «بعل بريت»، أي «خادم العهد». ويتم الختان على حضن هذا الرجل في حال غياب أبيه عن الختان. وقد تحوّل الاسم وأصبح السندك، ويُظن أن هذه الكلمة تحوير لكلمة يونانيّة تعني الضامن أو ما يسمّيه المسيحيّون «العرَّاب» أو «الشبين». وقد أخذ اليهود هذا النظام من طقس العمّاد عند المسيحيّين. وقد أعتُبر السندك بدرجة أعلى من الخاتن إذ شبّهت ركبتيه التي يجلس عليها الطفل بالهيكل الذي يُقدّم عليه البخور لله. ثم أعتُبر وكأنه كاهن في المعبد.

أضيف السندك لطقس الختان في القرون الوسطى بهدف إبعاد الأم. ولم تدخل المرأة في الكنيس لحضور الختان إلاّ في القرن السادس عشر بجانب زوجها. ولكن دون أن يكون لها الحق في اجلاس الطفل في حضنها كعرَّابة للطفل. فبقي الختان في يد الرجال. وهذا لم يتغيّر إلاّ في عصرنا في الأوساط اليهوديّة المجدّدة. وقد أصبح لها الآن الحق في أن تعمل كخاتن. كما أن العرَّاب عند التيّار المجدّد يمكن أن يكون امرأة. وفي زمننا يُختار رجل وامرأة يدعيان kvatter وهي كلمة من أصل ألماني تعني أيضاً العرَّاب يحضران الختان بالإضافة إلى العرَّاب الذي يحمل الطفل في حضنه وقت الختان.

لا يتطلب الختان حتى يكون صحيحاً إلاّ وجود الخاتن، ولكن من المفضّل أن يكون هناك العرَّاب والأب وعدد من الحضور. ومنهم من يقول بأنه يفضّل وجود عشرة أشخاص أعمارهم فوق سن الثالثة عشرة، أي النصب الضروري لإقامة الصلاة الجماعيّة إكراماً لوجود النبي إيليّا الذي يزعم اليهود إنه يحضر كل ختان. وفي التيّار اليهودي المجدّد يمكن أن يكون هذا النصب من عشرة رجال أو نساء. وهناك اعتقاد بأن حضور ختان طفل هو وسيلة ضد العقم. ففي بعض الحالات يحضر الخاتن معه زوجين لا ينجبان إلى حفل الختان دون إعلام أهل الطفل بذلك. ممّا يسبّب حرجاً.

إيليّا الغائب الحاضر

لإجراء عمليّة الختان يؤتى بكرسيين بجانب بعضهما أو كرسي مع مقعدين: واحد للسندك الذي سيحمل الطفل خلال الختان والآخر للنبي إيليّا. ولذا يدعى هذا الكرسي «كرسي النبي إيليّا». وقد يكون هذا الكرسي مزيّن بعبارة مثل «هذا كرسي النبي إيليّا، يذكره الله بالخير». وقد يكون كرسي عادي. وهو تقليد يهودي نجده في كتب المدراش من القرن التاسع الميلادي مبني على اعتقاد أن النبي إيليّا موجود في كل ختان.

هذا الاعتقاد ذو علاقة بسفر الملوك الأوّل (الفصل 19) الذي يحكي كيف أن إيليّا اشتكى لله ترك اليهود للختان. تقول الرواية إن الله غضب على إيليّا قائلاً: «أحلف بحياتي أنك ستكون حاضراً في كل مكان يضع أبنائي هذه العلامة المقدّسة على جسدهم. والفم الذي ادّعى أن إسرائيل قد نسي هذا العهد سيشهد في المستقبل أن إسرائيل قد أتمّه». وتضيف الرواية إنه عندما يأخذ رجل ابنه للختان، فإن الله يقول لحاشيته: «أنظروا ماذا يفعل ابني في العالم». حينذاك يُدعى إيليّا فيطير ليحضر الختان ثم يصعد ويقدّم شهادة عن الختان لله. ونقرأ في سفر النبي ملاخي: «هاءنذا مرسل رسولي فيعد الطريق أمامي، ويأتي فجأة إلى هيكله السيّد الذي تلتمسونه، وملاك العهد الذي ترتضون به. ها إنه آت. قال رب القوات» (ملاخي 1:3). ويظن اليهود أن عبارة «ملاك العهد» تعني النبي إيليّا الذي يكون سابقاً لمجيء السيّد المسيح. وكلمة العهد تعني الختان. وإيليّا يعتبر المحامي الخاص للأطفال. وهذا تلميح إلى ما ورد في سفر الملوك الأوّل (17:17-24) الذي يحكي كيف أعاد إيليّا الحياة بأمر الرب إلى طفل أرملة مات في حضرته.

ج) تنفيذ الختان

الإعداد الروحي والمادّي للختان

الختان في اعتقاد اليهود هو أمر إلهي وعلامة عهد بين الله وبينهم. لذا فهو لا يقتصر على عمليّة جراحيّة، بل تصاحبه استعدادات روحيّة دخلت فيها عدّة عادات وأساطير.

هناك اعتقاد سائد بين اليهود بوجود أرواح شرّيرة أهمّها زوجة آدم الأولى والتي يطلقون عليها اسم «ليليت». وهذه الأرواح تحوم حول الإنسان لتطيح به. وهي تحاول إضاعة مني الرجل وخنق الأطفال الذكور خلال الأيّام الثمانية الأولى حتى ختانهم، والأطفال الإناث خلال العشرين يوماً الأولى. فيكون الختان أسلوباً لتخليص الطفل من شرور تلك الأرواح التي تختفي أمام منظر الدم. ويقيم اليهود في الأيّام السابقة للختان سهرات حول الطفل لحمايته من تلك الأرواح يتم فيها قراءة الكتب المقدّسة وإقامة الصلوات. وهناك أهمّية خاصّة لليلة السابقة للختان لأنهم يعتقدون أن تلك الأرواح تحاول منع الطفل من الختان الذي به ينجو من الجحيم. ويطلق اليهود الألمان على هذه الليلة اسم «ليلة اليقظة». وهم يستعملون لنفس الهدف الطلاسم. ومنهم من ينصب مائدة عليها مأكولات حتى تلتهي بها الأرواح وتبعد عن الطفل. ويهود اليمن لا يتركون الطفل والأم وحدهما في الليلة السابقة للختان ويحرقون البخور داخل الغرفة حماية من الأرواح الشرّيرة.

ويحاول اليهود إحاطة الختان بمظاهر البهجة وذلك عملاً بقول التوراة: «هذا إلهي فيه اعجب، إله أبي فيه أشيد» (الخروج 2:15). وهذا الابتهاج يعبّر عنه في عدّة الختان وثياب الطفل والوجبة التي تعد لذلك. وتضاء في حفلة الختان الشموع. ويرى البعض أن ذلك إشارة لنص التوراة: «إن الوصيّة مصباح والتعليم نور» (الأمثال 23:6) أو رمز الابتهاج، أو علامة لإشعار المارّة بأنه في ذاك البيت يُعد لإجراء الختان في زمن كان الختان ممنوعاً فيتم بالسرّية. ومنهم من يضيء ثلاث عشرة شمعة بعدد المرّات التي ذُكرت فيها كلمة ختان في الفصل 17 من سفر التكوين، أو إشارة إلى أولاد يعقوب الاثني عشر يضاف إليهم الطفل. ومنهم من يرى أن الغاية من تلك الشموع إبعاد الأرواح الشرّيرة عن الطفل.

والخاتن اليهودي يشارك في الاستعداد الروحي والمادّي للختان. يقول كتاب يهودي عن الختان أن على الخاتن أن يعتبر نفسه وسيطاً بين الله والعائلة لتنفيذ وصيّة إلهيّة. فعليه أن يلتقي مع الأهل لإفهامهم معنى الختان وإعدادهم روحيّاً لهذا الحدث ويُحَضِّر معهم النص الذي سوف يقرأه في تلك المناسبة، ويغتنم مناسبة الختان لتثقيف العائلة والمدعوّين دينيّاً حتى يثبّت فيهم المبادئ اليهوديّة.

مراحل الختان

يقول سفر التكوين: «تختنون في لحم غلفتكم» (11:17) ولكن لا يوضّح مقدار الجلدة التي يجب قطعها.

ويعتقد عالم يهودي أن العهد بين الله وإبراهيم لم يكن عهد ختان (بريت ميلا) بل عهد دم الختان (بريت دم ميلا). ثم تحولت تدريجياً إلى عملية جراحية تبتر فيها الجلدة التي تزيد عن الحشفة. وإذ حاول بعض اليهود عبر التاريخ مد جلد الذكر حتى يغطي الحشفة، تشدّد رجال الدين اليهود في ضرورة إبقاء علامة الختان ظاهرة. ونجد هذا التشدّد واضحاً في المشنا التي تعتبر الختان باطلاً إذا بقيت قطعة من لحم الغلفة تغطي الجزء الأكبر من الحشفة. وهذا يعني بأنه يجب إعادة عمليّة الختان مرّة ثانية. فقد أضيف حوالي عام 140 بعد المسيح إلى القطع سلخ بطانة الغلفة بظفر حاد لجعل عمليّة إخفاء علامة الختان بمد الجلد أكثر صعوبة. ثم أضيفت مرحلة المص ويطلق عليها اسم «مزيزا» يضع خلالها الخاتن في فمه شيئاً من الخمر ثم يحتوي بفمه الجزء الذي أُجرِيَت فيه الجراحة ويمصّه ثم يمج مزيج الخمر والدم في وعاء معد لذلك ويُكرّر المص عدّة مرّات.


الحاخام يوسف دافيد فايزبورج يمص القضيب المختون

المصدر: جيروزاليم بوست، 5 نوفمبر 1976

http://www.sexuallymutilatedchild.org/mohel.htm

وكان سابقاً يُظن أن عمليّة المص هذه تساعد على الشفاء. ولكنّه تبيّن أن هذه العمليّة سبب تفشّي أمراض شتى كالزهري والدفتيريا التي تنتقل جراثيمها من فم الخاتن إلى المختون وقد يكون فيه حتفه. وقد حظرت الجمعيّة الطبّية بباريس في عام 1843 هذه العمليّة ممّا أدّى إلى معارضة شديدة من قِبَل الخاتنين. وما زال كثير من الخاتنين في الأوساط التقليديّة حتى يومنا هذا يمصّون الدم بفمهم. ويُقترح عليهم تفادي مثل هذا التصرّف أو على الأقل أن ينظفوا فمهم بالكحول قَبل ذلك. وقد أوجد بعضهم حلاً وسطاً باستعمال شافطة من الزجاج يثبّت طرفها على الذكر ويقوم الخاتن بشفط الدم من الطرف الآخر إمّا بفمه أو بواسطة آلة مطاطيّة. وهناك من يستعمل فقط قطعة من القطن لمص الدم. وعند اليهود المجدّدين لا توجد شروط خاصّة لهذه العمليّة وكل خاتن يقوم بها كما يشاء. ويرى طبيب خاتن أرثوذكسي أمريكي أنه يجب النظر إلى عمليّة المص بالفم نظرة احترام لأن الكتب اليهوديّة القديمة تتكلم عنها بصورة إيجابيّة جدّاً كجزء من عمليّة الختان وكوسيلة للوقاية من الأمراض. وهذا يبيّن مدى تزمّت الأوساط الدينيّة وابتعادها عن منطق العقل.


مصير الغلفة

في بعض الأوساط اليهوديّة يجفف الخاتن غلف الأطفال الذين ختنهم ويحتفظ بها حتى مماته فتقبر معه لتؤمّن خلاصه الأبدي وتبعد عنه الشياطين. وهناك اعتقاد أن العفن والدود لا يمس فم الخاتن. وعند يهود منطقة طرابلس في ليبيا تضع الغلفة في بيضة تشربها امرأة عاقر تيمناً بها. كما أن بعضهم يأخذ تلك الغلفة ويضعها في فم طفل لم يختن بعد لكي تبعد عنه الأرواح الشرّيرة. ومنهم من يقوم بحرق الغلفة معتبرين أنها قرباناً لله. وحرق القرابين عادة معروفة في التوراة. ويكفي هنا ذكر عزم إبراهيم ذبح ابنه وحرقه بأمر من الله قبل أن يُستبدل الابن بكبش. وسوف نرى في الجدل الاجتماعي أن الغلفة أصبحت في أيّامنا سلعة تجاريّة تباع وتشترى. فتدخل في مستحضرات التجميل والاختبارات الطبّية أو توسّع فتستعمل لترقيع الحروق.

د) الانتقال من الطقس الدموي إلى الطقس غير الدموي

عبثاً نبحث في الكتب المقدّسة اليهوديّة عن طقس ديني واحتفالات ترافق عمليّة الختان. والطقس الذي بين أيدينا اليوم وضعه رجال الدين اليهود بعد القرن الأوّل. وهو خليط من رموز وصلوات تراكمت عبر العصور ممّا جعل من الصعب فهمها، حسب اعتراف الكتاب اليهود أنفسهم. وهذا الطقس يتم باللغة العبريّة التي تخفى على كثير من اليهود في عصرنا. إلاّ أن بعض الكتب حول الختان تضم الطقس الديني بالعبريّة مع «ترجمة لمعانيه». ويتمسك اليهود بهذا الطقس كشرط لصحة الختان. فمن دونه يجب إنزال نقطة دم من حشفة المختون حتى يعتبر مختوناً. وتتم خلال هذا الطقس المراحل الثلاث للختان (القطع والسلخ والمص) ويعطى المختون اسماً عبرياً.

ويرى معارضو الختان فيه عملية دموية همجية ولكنهم يعترفون بأنه من غير الممكن حذفه بالكامل بسبب مظاهره الإيجابية مثل الاجتماع العائلي والاحتفال وتبادل الهدايا والشعور بوحدة المصير والتاريخ. ولذا فهم يبقون على الطقس وتوابعه الاجتماعية دون البتر وبدلاّ من قراءة الفصل السابع عشر من سفر التكوين الذي يتضمن أمر القطع يقرأون فقرة من الفصل الثاني والعشرين من هذا السفر تقول: «وربط إبراهيم ابنه إسحاق وجعله على المذبح فوق الحطب ومد إبراهيم يده فأخذ السكين ليذبح ابنه. فناداه ملاك الرب من السماء قائلاً: إبراهيم! قال: هاءنذا. قال: لا تمد يدك إلى الصبي ولا تفعل به شيئاً» (التكوين 11:22). ويعطى المختون اسماً عبرياً. وهناك من يقوم ببتر جزرة بدلاً من بتر الغلفة.

هذا وترفض الأوساط الدينيّة اليهوديّة هذا الطقس البديل. ولكن مؤيّدوه يردّون بأن 80% من عمليّات الختان التي تجرى لليهود في الولايات المتحدة لا تفي بشروط الختان الديني إذ إن كثيراً من اليهود يختنون في المستشفى وليس من قِبَل الخاتن. ويضيفون أن المهم في الختان هو المعنى وليس عمليّة الختان بالذات. وطقس الختان الرمزي أكثر مساواة إذ من الممكن أن يجرى على البنات أيضاً بعكس الختان التقليدي الدموي الذي يجرى فقط على الأولاد.

5) ختان الإناث عند اليهود

أ) ختان الإناث في الشرق الأوسط قديماً

هناك إشارات بأن المصريّين كانوا يمارسون ختان الإناث. وحتى يومنا هذا ما زال يطلق على ختان الإناث في السودان اصطلاح الخفاض الفرعوني. ولكن لا توجد نقوش واضحة لختان الإناث على جدران المعابد والمقابر. ويقول العلماء إن ختان الفتاة لدى المصريّين القدماء كان يتم بإزالة البظر والشفرين الصغيرين. وهناك برديّة كتبها باليونانيّة كاهن مصري يرجع تاريخها إلى عام 163 قَبل المسيح جاء فيها ذكر لختان الإناث. وتتضمّن البرديّة شكوى قدّمها شحاذ معتزل وقع ضحيّة احتيال. فقد أودعت عنده فتاة مبلغ 1300 درهم. وجاءت أم الفتاة وطالبته بالوديعة لأن ابنتها بلغت عمر يتم فيه ختانها وبحاجة لملابس ومهر لزواج محتمل. وقد وعدته بأنها سوف تعيد المبلغ له إذا لم تجرِ للفتاة عمليّة الختان. وقد نكثت الأم بوعدها فطالبت الفتاة بوديعتها.

ويقول «سترابو» الذي زار مصر عامي 25-23 قَبل المسيح بأن ختان الذكور والإناث كان يمارس على السواء عند المصريّين واليهود. وفي مكان آخر، يعيد علينا القول إن عند اليهود عادة يحرسون عليها جدّاً وهي عادة ختان الإناث، موضّحاً بأنه يتم في هذه العمليّة قطع الشفرين الصغيرين.

ويؤكد المؤلف اليهودي «فيلون» (توفى عام 54) أن المصريّين كانوا يمارسون الختان. فيختنون كل من الذكر والأنثى عندما يبلغون سن الرابعة عشر، أي عندما يبدأ «الخطيب» بالإمناء و «الخطيبة» بالعادة الشهريّة. ويضيف أن الله لم يفرض على اليهود ختان الإناث مكتفياً بختان الذكور لأن شهوة الرجل أكبر من شهوة المرأة والقصد من الختان هو إضعاف تلك الشهوة.

وسوف نعود لعادة ختان الإناث عند المصريين في العصور اللاحقة عندما سنتكلم عن ختان الإناث عند الأقباط.

ب) ممارسة اليهود لختان الإناث وإنكارهم ذلك

لا يوجد أي ذكر في الكتب المقدّسة اليهوديّة لختان الإناث. ولكن هل مارس اليهود ختان الإناث؟ هذا ما يؤكد عليه سترابو كما ذكرنا أعلاه. بينما يظهر أن فيلون ينفي ذلك. ولكن تبين الشواهد بأنهم كانوا يختنون الإناث.

هناك أسطورة يتناقلها الكتاب العرب عن اليهود تقول بأن سارة ختنت هاجر. وسوف نعود لهذه الأسطورة لاحقاً.

واليهود الفلاشة من أصل حبشي يمارسون حتى يومنا هذا ختان الإناث. وقد نقل عنهم الرحّالة الاسكتلندي «جيمس بروس» في القرن الثامن عشر قولهم بأن ختان الإناث كان منتشراً في القدس على زمن الملك سليمان وأنهم كانوا يمارسونه هناك قَبل مجيئهم إلى الحبشة. ويذكر هذا الرحّالة أن المبشّرين الكاثوليك قد منعوا ختان الإناث في مصر بين أتباعهم لاعتقادهم أنها عادة يهوديّة. ولنا عودة إلى هذا الحدث في القسم القادم.

وكتب «ريتشارد بيرتون» في القرن الماضي بأن ختان الإناث كان جارياً بين اليهود الألمان حتى أيّام «رابي جيرشون» (توفى عام 1028) الذي انتقده معتبراً ذلك عملاً مخزياً. وقد أضاف «بيرتون» بأن تلك العادة ما زالت سارية في بعض القبائل اليهوديّة في زمنه.

من جهة أخرى شارك الأطبّاء اليهود مع غيرهم من الأطبّاء الغربيّين في بريطانيا والولايات المتحدة في الدعاية لختان الإناث وممارسته بداية من القرن التاسع عشر، خاصّة تحت شعار مكافحة العادة السرّية التي كان الفكر اليهودي أحد دعائمها كما سنرى في الجدل الطبي. وقد تعرّفت شخصياً على سيّدة أستراليّة عمرها 23 سنة تم ختانها من قِبَل خاتن يهودي عندما كان عمرها 12 سنة بعدما اكتشف والدها، وهو طبيب يهودي، أنها تمارس العادة السرّية.

إلاّ أن اليهود لا يقبلون القول بأن طائفتهم تمارس ختان الإناث معتبرين مثل هذا القول إساءة لهم. وقد حاول أساتذة الجامعات نفي تلك العادة عنهم. فمثلاً كتب أستاذ قانون إسرائيلي: «إن اليهوديّة لم تمارس أبداً ختان الإناث». وواضح أن هذا الأستاذ يتلاعب بالكلام. صحيح أنه ليس هناك أي ذكر له في التوراة. ولكن ليس كل ما يمارسه اليهود هو في التوراة. فعلى سبيل المثال لا تذكر التوراة سلخ القضيب (المرحلة الثانية من الختان) أو مص القضيب (المرحلة الثالثة من الختان) ولكن اليهود يمارسونهما رغم ذلك. وعلى فرض أن اليهود الفلاشة قد أخذوا ختان الإناث عن الشعوب التي يعيشون معها في الحبشة إلاّ أنّه يمكن القول أيضاً أن اليهود أخذوا ختان الذكور عن المصريين ثم تم السن عليه في التوراة لاحقاً.

ج) إشراك الإناث في طقس الختان الرمزي

وإذا تركنا جانباً محاولات اليهود اليائسة إنكار ممارستهم ختان الإناث في الماضي والحاضر، نجد أن معارضي ختان الذكور قد استبدلوا طقس الختان الدموي الذي يجري على الذكور بطقس ختان غير دموي لا بتر فيه كما رأينا في النقطة السابقة.

ولتفادي الاتهام بعدم المساواة، يقترح أيضاً مؤيّدو ختان الذكور الدموي وغير الدموي إقامة مراسيم دينيّة للإناث أسوة بالمراسيم الدينيّة التي تقام للذكور، ولكن دون أن يتم قطع أعضائها الجنسيّة. وقد برّروا اقتراحهم بالرجوع إلى التوراة. فالفصل السابع عشر من سفر التكوين الذي سن الختان للذكور يذكر أن الله غيّر اسم أبرام إلى إبراهيم (التكوين 5:17) واسم ساراي إلى سارة (التكوين 15:17) ولكن دون أن يسن الختان عليها. وعليه فإن بعض اليهود يقترحون أن يشارك الخاتن في اليوم الثامن من ميلاد الطفلة بمراسيم دينيّة يتم خلالها تسمية الطفلة وإدخالها العهد واعتبار دم حيضها كبديل لدم الطفل الذي يسال عند الختان. ومنهم من يقترح تغطيس البنت كلياً أو جزئيّاً في الماء كعلامة ميلاد جديد وذلك رجوعاً إلى نص من التلمود فُسِّر بأن سارة قد غسلت نفسها بعد حصولها على اسمها الجديد. وهناك أيضاً من يقترح أن تغسل أرجل البنت تعبيراً عمّا فعله إبراهيم مع ضيوفه عندما غسل أرجلهم (التكوين 4:18). ومنهم من يقترح أن يوضع حوض في الوسط ويطلب من الحضور سكب كاس من الماء في هذا الحوض وغسل أرجل الطفلة فيه بينما يرتل الجمع كلام النبي أشعيا: «وتستقون المياه من ينابيع الخلاص مبتهجين» (أشعيا 13:12). وفي هذه المناسبة، يمكن لأهل الطفلة أن يذكروا للجمع معنى الاسم العبري الذي أعطي للطفلة كما هو الأمر عند ختان الطفل.

الفصل الثاني
الختان في الفكر الديني المسيحي

1) الختان في نصوص الكتب المقدّسة المسيحيّة

أ) موقف المسيح من الختان

لقد انفرد لوقا بذكر خبر ختان يوحنّا المعمدان - النبي يحيى حسب القرآن (59:1) وختان المسيح - النبي عيسى حسب القرآن (21:2) كما سنّت عليه التوراة. وهذا الخبر لم يأتِ ذكره في الأناجيل الثلاثة الأخرى.

لا نجد موقفاً واضحاً للمسيح حول الختان ولكن يمكن استشفاف موقفه من خلال نظرته للشريعة اليهوديّة. فهو يقول: «ولا تظنّوا إني جئت لأبطل الشريعة أو الأنبياء: ما جئت لأبطل بل لأكمّل» (متى 17:5). ورغم ذلك فإنه قد ألغى شريعة العين بالعين والسن بالسن (متى 38:5-39) ورفض تطبيق حد الرجم على الزانية (يوحنّا 3:8-11). ولم يحترم حرمة السبت (متى 1:12-2) معتبراً أن الله يريد «الرحمة لا الذبيحة» (متى 7:12)، مردّداً بذلك مقولة النبي هوشع (6:6) ومعتبراً أن «ابن الإنسان سيّد السبت» (متى 8:12). وهدم نظام التعالي الذي رافق الختان. فبدأ بالتمرّد على رجال الدين الذين وصفهم بـ»العميان الجهّال» (متى 17:23)، طالباً من تلاميذه: «لا تدَعوا أحداً يدعوكم رابي [...]. وليكن أكبركم خادماً لكم» (متى 8:23-11). وأكل مع الخطاة (متى 10:9-11)، ودخل بيت زكا العشّار (لوقا 7:19)، وتحدّث مع السامريّة (يوحنّا 9:4)، ومدح شكر الأجنبي له (لوقا 18:17)، وعظم إيمان المرأة الكنعانيّة وإيمان قائد المائة الروماني (متى 10:8؛ 28:15). وقد وصل به الأمر إلى سن محبّة الأعداء (متى 44:5). كما أنه غيَّر مفهوم الطهارة في الطعام: «ما من شيء خارج من الإنسان إذا دخل الإنسان ينجّسه، ولكن ما يخرج من الإنسان هو الذي ينجّسه» (مرقس 15:7)، أي ما يقوله وما يسيء به إلى قريبه (مرقص 20:7-22). وعلق مرقس على هذا القول: «وفي قوله ذلك جعل الأطعمة كلها طاهرة» (مرقس 19:7). فليست النجاسة، حسب قوله، ما يدخل الفم بل ما يخرج منه وينبعث من القلب، أي «المقاصد السيّئة والقتل والزنى والفحش والسرقة وشهادة الزور والشتائم. تلك هي الأشياء التي تنجّس الإنسان. أمّا الأكل بأيد غير مغسولة فلا ينجّس الإنسان» (متى 15: 18-20).

هذا الموقف من الشريعة اليهوديّة ورجال الدين اليهود قد يساعدنا في تفسير رد المسيح على من اعترضوا على إبرائه مريضاً يوم السبت بأن اليهود تختن يوم السبت، وطلبه منهم أن يكون حُكمهم ليس بحسب الظاهر (يوحنّا 21:7-22). فالظاهر لا يمكن أن يرتكز عليه للحُكم على أحد. ونحن نجد نفس التعبير لرفض الختان في أعمال الرسل على لسان بطرس عندما دعي إلى بيت قرنيليوس (أعمال الرسل 34:10-35) وفي إحدى رسائل بولس (رومية 28:2).

هذا ونجد قولاً للسيّد المسيح في إنجيل توما يؤكد على رفض المسيح للختان: «فسأله تلاميذه: هل الختان مفيد أم لا؟ فأجابهم: لو كان مفيداً لكان خلقهم أباهم مختونين من أمّهاتهم. ولكن الختان الحقيقي الذي فيه كل الفائدة هو ختان الروح». وإنجيل توما هذا مكتوب باللغة القبطيّة تم اكتشافه في نجع حمادي (مصر). وهو أحد الأناجيل التي لم تعترف بها الكنيسة الرسميّة. ويعتبره بعض الباحثين أحد أصول الأناجيل الحاليّة والبعض الآخر يعتبره من وضع تيّار ديني مسيحي منشق.

وإذا استثنينا ما جاء في إنجيل توما من رفض قاطع للختان، يمكننا القول إن المسيح لم يتعرّض للختان مباشرة إذ لم يطرح الأمر عليه. ولكنّه مهّد الطريق لرسله لكي يلغوا الختان عندما أخذوا بتبشير غير اليهود حسب وصيته لهم (متى 19:28). فعالميّة تعاليم المسيح لم تكن تتماشى مع قبليّة شريعة موسى ومع تسلط رجال الدين اليهود في مواجهة مجتمع تغلغلت فيه الفلسفة اليونانيّة والثقافة الرومانيّة المتوجّهة لخرط جميع الشعوب في بوتقة واحدة. وهذا ما سنراه في النقطة اللاحقة.

ب) موقف رسل المسيح من الختان

نشر رسل المسيح تعاليمه بين اليهود وبين الوثنيّين. وقد أطلق أتباع المسيح من اليهود على أنفسهم لقب «النصارى» نسبة إلى المسيح الذي كان يلقّب بالناصري لأنه من مدينة الناصرة. وهم رغم إتباعهم المسيح يحافظون أيضاً على شرائع موسى، خاصّة شريعة الختان. أمّا أتباع المسيح من الوثنيّين، فقد أطلقوا على أنفسهم لقب «المسيحيّين». وهذه الطائفة ترفض الختان، خاصّة أن القوانين الرومانيّة كانت تعاقب غير اليهود على ممارسة هذه العادة كما سنرى في الجزء القانوني. وقد بقيت الطائفتان منفصلتين ومتخاصمتين حتى تغلبت الطائفة المسيحيّة بتحوّل الإمبراطوريّة الرومانيّة من الوثنيّة إلى المسيحيّة في القرن الرابع.

وقد اصطدم رسل المسيح بموضوع الختان في بداية تبشيرهم كما يبيّنه لنا سفر أعمال الرسل من خلال حدثين:

الحدث الأول (الفصلان 10 و11) يتعلق بتلبية دعوة وجّهها إلى بطرس رجل روماني، وثني، اسمه قرنيليوس، قائد مائة من الكتيبة الإيطاليّة المتمركزة في مدينة قيصريّة في فلسطين، فعمّده هو وأهل بيته. ولكن أتباع المسيح من اليهود عاتبوا بطرس لأنه دخل في بيت أناس غلف وأكل معهم رغم أنه يعلم بأنه «حرام على اليهودي أن يعاشر أجنبياً أو يدخل منزله». وقد برّر بطرس قبوله دعوة قرنيليوس بسرد رؤيا رآها قَبل وصول مبعوثي قرنيليوس إليه. فقد رأى وعاءاً هابطاً كسماط عظيم يتدلى من السماء بأطرافه الأربعة فيه من جميع أنواع الحيوانات وقد سمع صوتاً يقول له: قم يا بطرس فاذبح وكل. فأجاب: حاش لي يا رب، لم يدخل فمي قط نجس أو دنس. فجاء رد من السماء: ما طهّره الله لا تنجسه أنت. وقد تكرّر هذا الأمر ثلاث مرّات. ثم أضاف بطرس أن ذهابه إلى قرنيليوس كان بأمر من الروح القدس، وأن من دعاه قد نال موهبة الروح القدس، وأنه، أي بطرس، قد سأل مرافقيه من المختونين: أيستطيع أحد أن يمنع هؤلاء من ماء المعموديّة وقد نالوا الروح القدس مثلنا؟ فلم يعارضوه. وقد تعلم بطرس من هذا الحدث مبدأين يختلفان تماماً عن المبادئ اليهودية التي نشأ عليها:

- «قد بيّن الله لي أنه لا ينبغي أن أدعو أحداً من الناس نجساً أو دنساً» (28:10)

- «أدركت حقاً أن الله لا يُراعي ظاهر الناس. فمن إتقاه من أيّة أمّة كانت وعمل البر كان عنده مرضيّاً» (34:10-35).

ويذكر سفر أعمال الرسل أن قرنيليوس قد اعتمد دون أيّة إشارة إلى ختانه. ومن فحوى الكلام يمكن أن نستنتج بأنه لم يختن، خصوصاً أنه قائد روماني تعاقب قوانين دولته ختان غير اليهود. ويضيف سفر أعمال الرسل أن معارضي بطرس، لمّا سمعوا حججه، «هدأوا ومجّدوا الله وقالوا: قد وهب الله إذا للوثنيّين أيضاً التوبة التي تؤدّي إلى الحياة» (18:11). ولكن هدوءهم لم يدم طويلاً.

الحدث الثاني (الفصل 15) يدور حول «خلاف وجدال شديد» دار بين «النصارى» و «المسيحيّين». فقد ذهب «أناس من اليهوديّة» إلى «المسيحيّين» من أصل وثني في «إنطاكية وسوريّة وقيليقية» يقولون لهم: «إذا لم تختتنوا على سُنّة موسى، لا تستطيعون أن تنالوا الخلاص». وعلى أثر هذا الخلاف اجتمع بولس وبرنابا مع الرسل والشيوخ في أورشليم وتباحثوا في الأمر. فانقسموا فيما بينهم. فقام «النصارى» من مذهب الفرّيسيين وقالوا: «يجب ختن الوثنيّين وتوصيتهم بالحفاظ على شريعة موسى». وأمّا بطرس، فقد اقترح عدم فرض الختان على الوثنيّين لأن الله قد «طهّر قلوبهم بالإيمان». وتساءل: «لماذا تجرّبون الله الآن بأن تجعلوا على أعناق التلاميذ نيراً لم يقوَ آباؤنا ولا نحن قوينا على حمله؟» وكان الحل النهائي للقدّيس يعقوب الذي قرّر ما يلي: «إني أرى ألاّ يضيّق على الذين يهتدون إلى الله من الوثنيّين، بل يكتب إليهم أن يجتنبوا نجاسة الأصنام والزنى والميّتة والدم». لم يعد إذاً هناك حاجة للختان. وقد تم إبلاغ القرار إلى الاخوة المهتدين من الوثنيّين في إنطاكية وسوريّة وقيليقية.

ورغم قرار الرسل هذا، فإن «النصارى» بقوا متمسّكين بضرورة الختان لليهودي الذي يتبع المسيح، معتبرين قرار عدم فرض الختان خاص بالوثنيّين الذين يدخلون الدين الجديد. وقد تقاسم الرسل مُهمّة التبشير: فبولس وبرنابا توجّها إلى تبشير الوثنيّين، أمّا يعقوب وبطرس ويوحنّا، فقد قاموا بتبشير اليهود. وكان على كل مجموعة اتخاذ الحيطة لتفادي تشكيك الناس خارج محيط تبشيره. فالفصل 61 من سفر أعمال الرسل يبيّن لنا كيف أن بولس قام بختان طموتاوس وهو ابن يهوديّة مؤمنة من أب يوناني قبل أن يستصحبه معه. كما يبيّن لنا الفصل 21 أن «النصارى» من أصل يهودي لم يكونوا راضين عن بولس بسبب إشاعات تقول إنه يوصي اليهود المنتشرين بين الوثنيّين بعدم ختان أولادهم. فعند مجيئه إلى أورشليم نصحه الشيوخ بأن يتظاهر أمامهم باحترام الشريعة: «فينا أربع رجال عليهم نذر، فسِر بهم واطهّر معهم، وانفق عليهم ليحلقوا رؤوسهم، فيعرف جميع الناس أن ما يشاع عنك باطل، في حين انك سالك مثلهم طريق الحفاظ على الشريعة». ولكن الأمر لم يكن سهلاً. فعند زيارة بطرس إلى إنطاكية كان هذا الأخير يؤاكل الوثنيّين هناك. وعندما قدم قوم من أورشليم من عند يعقوب أخذ يتوارى ويتنحّى خوفاً من «أهل الختان». فلامه بولس على فعله هذا لأن ذلك يشكك الجماعة التي يقوم بتبشيرها.

ونتيجة لتقاسم التبشير بين الرسل، لا نجد أي ذكر للختان في رسالة يعقوب ورسالتي بطرس، ورسائل يوحنّا الثلاث ورسالة يهوذا ورؤيا يوحنّا. بينما نجد فقرات طويلة حول الختان في ست رسائل للقدّيس بولس الذي كان من نصيبه تبشير الوثنيّين الذين لم يفرض عليهم الختان. ويمكننا هنا أن نختصر فكر بولس في الفقرات الأربع الآتية دون دخول في الجدل اللاهوتي العويص التي تحتويها بعض فقرات رسائله:

- «ليس اليهودي بما يبدو في الظاهر، ولا الختان بما يبدو في ظاهر الجسد. بل اليهودي هو بما في الباطن، والختان ختان القلب العائد إلى الروح، لا إلى حرف الشريعة» (رومية 28:2-29).

- «ليسر كل واحد في حياته على ما قسم له الرب كما كان عليه إذ دعاه الله. وهذا ما أفرضه في الكنائس كلها. أدعي أحد وهو مختون؟ فلا يحاولن إزالة ختانه. أدعي أحد وهو أغلف؟ فلا يطلبن الختان. ليس الختان بشيء ولا الغلف بشيء. بل الشيء هو حفظ وصايا الله. فليبق كل واحد على الحال التي كان فيها حين دعي» (1 قورنتس 17:7-20).

- «في المسيح يسوع لا قيمة للختان ولا للغلف، وإنّما القيمة للإيمان العامل بالمحبّة» (غلاطية 6:5).

- «في [المسيح] ختننم ختاناً لم يكن فعل الأيادي، بل بخلع الجسد البشري، وهو ختان المسيح. ذلك أنكم دفنتم معه بالمعموديّة وبها أيضاً أقمتم معه، لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أقامه من بين الأموات. كنتم أمواتاً أنتم أيضاً بزلاّتكم وغلف أجسادكم فأحياكم الله معه وصفح لنا عن جميع زلاّتنا» (قولُسّي 11:2-13).

هذا ونجد في رسائل بولس هجوماً لاذعاً ضد أتباع المسيح من أصل يهودي (النصارى) الذين كانوا يريدون فرض الختان على أتباع المسيح من أصل وثني (المسيحيّين): «احذروا الكلاب. احذروا العملة الأشرار. احذروا ذوي الختان» (فيلبّي 2:3). «هناك كثير من العصاة الثرثارين المخادعين، وخصوصاً من المختونين. فعليك أن تكم أفواههم لأنهم يهدمون أسراً بجملتها، إذ يعلمون ما لا يجوز تعليمه، من أجل مكسب خسيس[...] فلذلك وبّخهم بشدّة ليكونوا أصحّاء الإيمان ولا يُعنوا بخرافات يهوديّة ووصايا قوم يعرضون عن الحق» (طيطس 10:1-14). «ليت الذين يثيرون الاضطرابات بينكم يجبّون أنفسهم» (غلاطية 12:5). وهذه الآية الأخيرة تقارن بين من يدعون للختان وبين كهنة الأوثان الذين كانوا يخصون أنفسهم تعبّداً لآلهتهم.

وباختصار شديد، يمكننا أن نقول إن أتباع المسيح انقسموا من اللحظة الأولى إلى قسمين: هناك من كان يعتبر الختان فريضة واجبة، بينما الآخرون كانوا يعتبرون الختان مجرّد إباحة، لا يقدّم ولا يؤخّر. ولم يكن يجمع بينهم إلاّ المعموديّة التي كانت تمارس ليس فقط على الرجال كما في الختان، بل أيضاً على النساء. وقد تم تدريجيّاً التنصّل من فريضة الختان. وإن كان الهدف الأوّل هو اجتذاب الوثنيّين إلى المسيحيّة إلاّ أن هذا الهدف أدّى إلى تبنّي قاعدة أخلاقيّة ذات أهمّية كبرى وهي عدم الحُكم على الإنسان من خلال الظاهر. فالمهم ليس «ختان الجسد»، بل «ختان القلب والإيمان العامل بالمحبّة». وعليه فقد تم رفض اتهام الآخرين بالنجاسة أو الترفع عليهم لأنهم غير مختونين. وهذا هو التيّار الذي انتصر في النهاية عند المسيحيّين رغم أن بعضهم ما زال يمارسه كما سنرى لاحقاً.

ولكن علينا أن نوضّح أن الكتب المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة لم تعالج موضوع الختان من منظور حرمة جسد الإنسان كما نفعل نحن في عصرنا. فنحن اليوم نعتبر أنه لا يحق المساس بجسد الإنسان إلاّ بإذنه أو بإذن وليّه في حالة الضرورة الطبّية. وخارج هذا الإطار الضيّق، نعتبر التعدّي على سلامة الجسد حراماً وجرماً.

2) موقف آباء الكنيسة واللاهوتيّين من الختان

أ) انتصار التيّار الرافض للختان

ذكرنا سابقاً كيف أن أتباع المسيح قد انقسموا فيما بينهم إلى «نصارى» من أصل يهودي و «مسيحيّين» من أصل وثني.

كانت طائفة «النصارى» تتكلم اللغة السريانيّة وتحافظ على نواميس موسى كممارسة الختان وعدم أكل لحم الخنزير، وكان لها كنائسها الخاصّة بها وكهنتها. وكان اليهود يلاحقون هذه الطائفة ويطلقون على أتباعها لقب «مينيم»، أي الهراطقة، أو المرتدّين. وكان هناك أيضاً تناحر بين طائفة «النصارى» وطائفة «المسيحيّين» حتى داخل مدينة القدس. وكانت طائفة «النصارى» تبغض القدّيس بولس، فلا تعترف به كرسول ولا تقبل رسائله كجزء من الكتاب المقدّس لرفضه الانصياع لنواميس موسى ورفضه للختان. ولطائفة «النصارى» أناجيل خاصّة بها رفضتها طائفة «المسيحيّين» واعتبرتها نصوصاً محرّفة. وقد تم اكتشاف بعض تلك النصوص في مصر.

ورغم اندماج طائفة «النصارى» بطائفة «المسيحيّين» في نهاية القرن الرابع الميلادي، استمر الجدل حول الختان عبر العصور. فقد حاول دائماً اليهود الذين تحوّلوا إلى المسيحيّة لاحقاً في الإبقاء على عادة الختان. ويبيّن لنا مجمع اللاتران الرابع المنعقد عام 1215 أن بعض اليهود قد أصبحوا مسيحيّين ولكن دون أن يتخلوا عن عاداتهم اليهوديّة كالختان. «فهم، حسب قرارات هذا المجمع، لم يخلعوا الإنسان العتيق ليلبسوا الإنسان الجديد» كما يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل قولسي (9:3). وهم بذلك يعكرون صفاء الدين المسيحي. وبما أنه مكتوب: «ويل للخاطئ الذي يمشي في طريقين» (ابن سيراخ 12:2) وكذلك: «لا تلبس ثوباً مختلطاً من صوف وكتان معاً» (تثنية 11:22) فقرّر المجمع بأنه يجب إجبار أولئك اليهود المتحوّلين للمسيحية لكي لا يعودوا إلى شعائرهم القديمة.

هذا ونجد جدلاً متواصلاً حول موضوع الختان في كتابات آباء الكنيسة واللاهوتيّين المسيحيّين عبر العصور. وقد اخترنا ثلاث مصادر يمكن اعتبارها من أهم المصادر عند المسيحيّين: «يوستينوس» و «كيريلوس»، و «توما الأكويني». ولاحقاً سوف نستعرض هذا الجدل الديني في عصرنا بين مسيحيّي مصر ومسيحيّي الولايات المتحدة.

ب) رأي يوستينوس (توفى حوالي عام 165)

القدّيس الشهيد «يوستينوس» فلسطيني المولد، من مدينة نابلس، من عائلة رومانيّة. فهو ينتمي إلى طائفة «المسيحيّين». وهو من أوائل من كتب دفاعاً عن المعتقد المسيحي في مواجهة اليهود وفي مواجهة الدولة الرومانيّة الحاكمة. وقد ألف كتاباً يعرض فيه جدلاً دار بينه وبين يهودي اسمه «تريفون»، احتل فيه الختان مكاناً كبيراً إذ لامه اليهودي في بداية حديثه بأنه غير مختون كما أنه لا يحترم الأوامر الأخرى الخاصّة بالسبت والقرابين والصيام والطعام. وقد قدّم يوستينوس عدداً من الآراء في ردّه على اليهودي نختصرها في النقاط الآتية:

- إن أشعيا (3:55، 5) وأرميا (31:31-32) تكلما عن عهد جديد. وهذا العهد هو المسيح. فمن بعد مجيء المسيح يجب ختان جديد وهو ختان القلب بالابتعاد عن الفحشاء كما جاء في التوراة: «فاختنوا غلف قلوبكم، ولا تقسّوا رقابكم بعد اليوم» (تثنية 16:10). والمحافظة على السبت ليس بالبقاء بطالين دون عمل بل بالكف عن السرقة. والمحافظة على الصيام، ليس بالحرمان من الأكل بل بالصوم عن الشرور كما يقول أشعيا (1:58-11).

- الختان ليس ضروريّاً للخلاص. ولو كان كذلك، لما كان خلق الله آدم غير مختون، ولما قَبل محرقات هابيل الذي لم يختن، ولا رضي عن أخنوخ الذي رفعه إليه وهو غير مختون. وقد نجَّى الله لوطاً من صدوم، ودخل نوح وأولاده سفينته عند الطوفان ولم يكونوا مختونين. وكذلك الأمر لملكيصادق الذي على صورته أوحى الله لداؤد أنه سيقيم الكاهن الأبدي. ولم يحفظ أي منهم يوم السبت رغم أن الله كان راضياً عنهم جميعاً. كما أن إبراهيم لم يكن مختوناً عندما آمن بالله فرضي الله عنه (التكوين 6:15) ولم يكن في زمن إبراهيم أمر باحترام السبت والأوامر الأخرى الخاصّة بالطعام. فالختان واحترام السبوت وتقديم القرابين والأوامر الخاصّة بالطعام فرضها الله على اليهود لاحقاً بسبب شرورهم وقساوة قلوبهم.

- على اليهودي أن لا يلومه بسبب الغلفة، فالغلفة قد عملها الله، وأن لا يلومه لأنه يشرب مشروباً ساخناً يوم السبت، فالله يقود العالم يوم السبت كغيره من الأيّام. وهذا إشارة إلى أن اليهود لا يستطيعون حتى تسخين أكلهم في يوم السبت.

- الختان والأوامر التوراتيّة الأخرى كالسبت والقرابين التي خصّها الله باليهود بسبب قساوتهم تم إلغاؤها بميلاد المسيح من نسل إبراهيم. فقد بُشِّر به كناموس أبدي وعهد جديد للعالم أجمع. وقد حل محل الختان الجسدي ختان الروح الذي مارسه أخنوخ وأمثاله. وبخلاف الختان الذي يخص فقط الذكور من اليهود، فإن المعموديّة مفتوحة للجميع، للذكور والنساء.

هذا وقد أثار «يوستينوس» موضوع «النصارى» من أصل يهودي الذي كانوا يريدون المحافظة على الختان وأوامر موسى مع إيمانهم بالمسيح. وهو يرى بأنه يحق لهم ذلك على شرط أن لا يفرضوا الختان على الغير كوسيلة للخلاص.

ج) رأي كيريلوس الكبير (توفى عام 444)

شغل القدّيس «كيريلوس» منصب بطريرك الإسكندريّة. ويلقّب بعمود الكنيسة.

يرى «كيريلوس» أن الختان المقصود في التوراة هو ختان الروح، أي الكف عن الآثام، وليس ختان الجسد، أي قطع غلفة الذكر. وهو يعتمد في ذلك على قول بولس: «والختان ختان القلب العائد إلى الروح، لا إلى حرف الشريعة» (رومية 29:2)، وما جاء في سفر النبي أرميا: «اختتموا للرب وأزيلوا غلف قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم» (4:4). ويضيف كيريلوس: «إن الختان الحقيقي ليس ما يمس الجسد، بل هو في الرغبة بإتمام ما أمر به الله. فاستمع إلى ما يقوله بولس بوضوح: «ليس الختان بشيء ولا الغلف بشيء. بل الشيء هو حفظ وصايا الله» (1 قورنتس 19:7).

ويعتبر «كيريلوس» أن الفهم الحرفي لنصوص التوراة يؤدّي إلى نتائج لا يقبلها العقل. إضافة إلى كونها تعدّي على كمال خلق الله. ففي أحد خطبه عن سفر التكوين، يقول مخاطباً اليهود والنصارى من أصل يهودي:

«إنك تعتبر الختان حسب الجسد عمل مهم وأنه أفضل وسيلة للتعبّد [...]. دعنا إذاً نرى فائدة الختان والفضل الذي يريد المشرّع أن يعود علينا منه. إن ممارسة الختان المؤلمة على أجزاء من الجسم خصّتها الطبيعة بالتناسل، إن لم تكن هناك أسباب واهية جدّاً لتلك الممارسة، هي أمر سخيف، لا بل اتهام لعمل الخالق، كأننا نتهمه بإضافة نواتئ لا فائدة منها إلى مظهر الإنسان. وإن كان الأمر كذلك، فكيف لا يكون هذا حُكم على الحِكمة الإلهيّة بأنها غلطت فيما يليق؟ وقل لي: إذا ما ادّعى أحد أن الطبيعة المعصومة عن الغلط قد غلطت، ألن يقول عنه الجميع بأن ذاك المدّعي قد أصبح مختل العقل؟

إن الله الذي يعلو على كل شيء قد خلق آلاف الأجناس الحيّة التي لا عقل لها. وهي في تكوينها المتجه نحو الكمال لا يوجد فيها شيء عبث وغير كامل [...] فكيف إذاً يمكن لله، وهو المبدع العظيم، والذي يهتم في كل الأمور الصغيرة، أن يغلط في أعز مخلوقاته كلها؟ وبعد أن أدخل في العالم من اعتبره على صورته هل جعله بصورة أقل جمالاً من المخلوقات التي لا عقل لها إذا ما اعتبرنا أن لا عيب في تلك المخلوقات بينما هناك عيب في الإنسان؟»

د) رأي توما الأكويني (توفى عام 1274)

كان «توما الأكويني» راهباً دومينيكاني ويعتبر من أكبر علماء اللاهوت والفلسفة الكاثوليك في العصور الوسطى وما زال يؤثر على الفكر الديني والفلسفي المسيحي في عصرنا.

في كتابه المشهور «الخلاصة اللاهوتيّة»، يورد «توما الأكويني» الاعتراضات التي يمكن توجيهها للختان. هناك أوّلاً صعوبة تقديم سبب مقبول لأوامر التوراة. فالطقوس الإلهيّة يجب أن لا تشابه ممارسات الوثنيّين كما جاء في التوراة: «لا تصنع هكذا نحو الرب إلهك، فإنها قد صنعت لآلهتها كل قبيحة يكرهها الرب، حتى حرقت بنيها وبناتها بالنار لآلهتها» (تثنية 31:12). كما تذكر التوراة أن كهنة بعل كانوا يسيلون دماءهم: «وخدشوا أنفسهم على حسب عاداتهم بالسيف والرماح حتى سالت دماؤهم عليهم» (1 ملوك 28:18). وهي تمنع تجريح الجسد: «فلا تصنعوا شقوقاً في أبدانكم ولا تحلقوا ما بين عيونكم من أجل ميّت» (تثنية 1:14). وعلى هذا الأساس كيف يمكن تبرير الختان؟

وقد رد «توما الأكويني» على هذه الاعتراضات قائلاً أن الختان تعبير عن الإيمان باله واحد وعلامة دائمة في جسد اليهودي حتى لا ينسى الله. وهو أيضاً وسيلة لإضعاف الشهوة الجنسيّة في العضو التناسلي (وهذا قول مأخوذ عن موسى بن ميمون - انظر الملحق 25). وأخيراً هو وسيلة للسخرية من عبدة الأصنام الذين كانوا يكرّمون هذا العضو. ولا يمكن في هذا المجال مقارنة الختان بتجريح كهنة الأصنام أجسادهم الذي ترفضه التوراة.

ويقول توما إن سبب فرض الختان في اليوم الثامن هو لأن الطفل قَبل ذاك الوقت يكون ضعيفاً والتوراة لا تسمح أن يُفصل الحيوان عن أمّه قَبل اليوم الثامن لتقديمه قرباناً لله (الأحبار 27:22). ولم يؤخّر الختان عن ذلك العمر، حتى لا يتهرّب البعض من عمله بسبب الألم وحتى لا يتقاعس الأهل في تعريضهم لهذا الألم بسبب تعاظم حبّهم لطفلهم مع مرور الوقت ومعاشرتهم (وهذا قول مأخوذ أيضاً عن موسى بن ميمون - انظر الملحق 25). ويضيف الأكويني أن الختان في اليوم الثامن له معنى رمزي. فهو يرمز إلى أن المسيح سيلغي كل فساد في الأرض في اليوم الثامن، أي في يوم قيامته الذي تم أوّل الأسبوع. وبما أن الفساد يأتي عن طريق الجسد، من خطيئة أبينا الأوّل آدم، فكان لا بد من عمل الختان في عضو التناسل.

ويتساءل «توما الأكويني» إذا كان الختان علامة الإيمان، فلماذا وضعها الله علامة في العضو التناسلي بدلاً من وضعها على رأس الإنسان حيث المقدرة الذهنيّة التي ينبع منها الإيمان. ويرد بأن وضع علامة الختان في العضو التناسلي يشير إلى إيمان إبراهيم أن المسيح سيأتي من نسله، وأن الختان هو دواء ضد الخطيئة الأصليّة التي تتوارث بالتناسل، وأخيراً أن الهدف هو إنقاص الشهوة الجسديّة التي تتمركز خاصّة في الأعضاء التناسليّة بسبب شدّة اللذّة الجنسيّة.

ويورد «توما الأكويني» اعتراضاً على حذف فريضة الختان عند المسيحيّين. فالنبي باروك يقول: «هي كتاب أوامر الله والشريعة القائمة للأبد» (باروك 1:4). وقد أمر