Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الوجه الرابع عشر: إن الأغلف معرّض لفساد طهارته وصلاته فإن الغلفة تستر الذكر كلّه فيصيبها البول ولا يمكن الإستجمار لها. فصحّة الطهارة والصلاة موقوفة على الختان. ولهذا منع كثير من السلف والخلف إمامته وإن كان معذوراً في نفسه فإنه بمنزلة من به سلس البول ونحوه. فالمقصود بالختان التحرّز من إحتباس البول في الغلفة فتفسد الطهارة والصلاة. ولهذا قال إبن عبّاس فيما رواه الإمام أحمد وغيره: لا تُقبل له صلاة، ولهذا يسقط بالموت لزوال التكليف بالطهارة والصلاة.

الوجه الخامس عشر: إنه شعار عبّاد الصليب وعبّاد النار الذين تميّزوا به عن الحنفاء في الأصل. ولهذا أوّل من إختتن إمام الحنفاء وصار الختان شعار الحنيفيّة وهو ممّا توارثه بنو إسماعيل وبنو إسرائيل عن إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فلا يجوز موافقة عبّاد الصليب الغلف في شعار كفرهم وتثليثهم.

فصل: [أدلّة القائلين بالسُنِّية]

قال المسقطون لوجوبه قد صرّحت السُنّة بأنه سُنّة كما في حديث شدّاد بن أوس عن النبي (ص) أنه قال: «الختان سُنّة للرجال، مَكرُمَة للنساء»، رواه الإمام أحمد1.

قالوا: وقد قرنه عليه الصلاة والسلام بالمسنونات دون الواجبات وهي: الإستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط.

قالوا: وقال الحسن البصري: قد أسلم مع رسول الله (ص) الناس: الأسود والأبيض، الرومي والفارسي والحبشي فما فتّش أحداً منهم. وقال الإمام أحمد، حدّثنا المعتمر عن سالم بن أبي الدنيا قال: سمعت الحسن يقول: يا عجباً لهذا الرجل، يعني أمير البصرة لقي أشياخاً من أهل كيكر فقال: ما دينكم؟ قالوا: مسلمين. فأمر بهم ففتّشوا فوجدوا غير مختونين فختنوا في هذا الشتاء، قد بلغني أن بعضهم مات. وقد أسلم مع النبي (ص) الرومي والفارسي والحبشي فما فتّش أحداً منهم.

قالوا وأمّا إستدلالكم بقوله تعالى «ثم أوحينا إليك أن إتّبع مِلّة إبراهيم حنيفاً» (النحل 123:16) فالملّة هي الحنيفيّة وهي التوحيد. ولهذا بيّنها بقوله «حنيفاً وما كان من المشركين» (النحل 123:16). وقال يوسف الصدّيق: «إني تركت مِلّة قوم لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتّبعت مِلّة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء» (يوسف 37:12-38). وقال تعالى: «قل صدق الله فاتّبعوا مِلّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (آل عمران 95:3). فالملّة في هذا كلّه هي أصول الإيمان من التوحيد والإنابة إلى الله وإخلاص الدين له. وكان رسول الله (ص) يعِّلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: «أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبيّنا محمّد وملّة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين»2.

قالوا: ولو دخلت الأفعال في الملّة فمتابعته فيها أن تفعل على الوجه الذي فعله فإن كان فعلها على سبيل الوجوب، فإتّباعه أن يفعلها كذلك. وإن كان فعلها على وجه الندب، فإتّباعه أن يفعلها على وجه الندب. فليس معكم حينئذ إلاّ مجرّد فعل إبراهيم. والفعل هو على الوجوب أو الندب؟ فيه النزاع المعروف، والأقوى أنه إنّما يدل على الندب، إذا لم يكن بياناً للواجب فمتى فعلناه على وجه الندب كنّا قد إتّبعناه.

قالوا: وأمّا حديث عثيم بن كثير بن كليب عن أبيه عن جدّه: «ألق عنك شعر الكفر واختتن» فابن جريج قال فيه: أُخبرت عن عثيم بن كليب، قال أبو أحمد بن عدي: هذا الذي قاله إبن جريج في هذا الإسناد: أخبرت عن عثيم بن كليب إنّما حدثه إبراهيم بن أبي يحيى، فكنى عن إسمه، وإبراهيم هذا متّفق على ضعفه بين أهل الحديث ما خلا الشافعي وحده.

قالوا: وأمّا مرسل الزهري عن النبي (ص): «من أسلم فليختتن وإن كان كبيراً» فمراسيل الزهري عندهم من أضعف المراسيل لا تصلح للإحتجاج. قال إبن أبي حاتم: حدّثنا أحمد بن سنان قال: كان يحيى بن سعيد القطّان لا يرى إرسال الزهري وقتادة شيئاً، ويقول: هو بمنزلة الريح. وقرئ على عبّاس الدوري عن يحيى بن معين، قال: مراسيل الزهري ليست بشيء.

قالوا: وأمّا حديث موسى بن إسماعيل بن جعفر عن آبائه فحديث لا يعرف، ولم يروه أهل الحديث، ومخرجه من هذا الوجه وحده تفرّد به موسى بن إسماعيل عن آبائه بهذا السند، فهو نظير أمثاله من الأحاديث التي تفرّد بها غير الحفاظ المعروفين بحمل الحديث.

قالوا: وأمّا حديث أبي برزة فقال إبن المنذر: حدّثنا يحيى بن محمّد حدّثنا أحمد بن يونس حدثتنا أم الأسود عن منية عن جدّها أبي برزة، فذكره. قال إبن المنذر: هذا إسناد مجهول لا يثبت.

قالوا: وأمّا إستدلالكم بقول إبن عبّاس: الأغلف لا تُؤكل ذبيحته ولا تُقبل له صلاة فقول صحابي تفرّد به. قال أحمد - وكان يشدّد فيه - وقد خالفه الحسن البصري وغيره.

قولكم: إنه من الشعائر صحيح إذ لا نزاع فيه. ولكن ليس كل ما كان من الشعائر يكون واجباً. فالشعائر منقسمة إلى واجب: كالصلوات الخمس والحج والصيام والوضوء، وإلى مستحب: كالتلبية وسوق الهدى وتقليده، وإلى مختلف فيه: كالأذان والعيدين والأضحية والختان، فمن أين لكم أن هذا من قسم الشعائر الواجبة؟

قولكم: إنه قطع شرع الله لا تؤمن سرايته، فكان واجباً كقطع يد السارق من أبرد الأقيسة. فأين الختان من قطع يد اللص؟ فما أبعد ما بينهما. ولقد أبعد النجعة من قاس أحدهما على الآخر. فالختان إكرام المختون وقطع يد السارق عقوبة له، وأين باب العقوبات من أبواب الطهارات والتنظيف.

قولكم: يجوز كشف العورة له لغير ضرورة ولا مداواة، فكان واجباً. لا يلزم من جواز كشف العورة وجوبه، فإنه يجوز كشفها لغير الواجب إجماعاً، كما يكشف لنظر الطبيب ومعالجته، وإن جاز ترك المعالجة. وأيضاً فوجه المرأة عورة في النظر، يجوز لها كشفه في المعاملة التي لا تجب، ولتحمّل الشهادة عليها بحيث لا تجب، وأيضاً فإنهم جوّزوا لغاسل الميّت حلق عانته وذلك يستلزم كشف العورة أو لمسها لغير واجب.

قولكم: إن به يعرف المسلم من الكافر حتّى إذا وجد المختون بين جماعة قتلى غير مختونين صلّي عليه دونهم. ليس كذلك فإن بعض الكفّار يختتنون وهم اليهود. فالختان لا يميّز بين المسلم والكافر، إلاّ إذا كان في محل لا يختتن فيه إلاّ المسلمون. وحينئذ فيكون فرقاً بين المسلم والكافر. ولا يلزم من ذلك وجوبه كما لا يلزم وجوب سائر ما يفرّق بين المسلم والكافر.

قولكم: إن الولي يؤلم فيه الصبي ويعرّضه للتلف بالسراية، ويخرج من ماله أجرة الخاتن وثمن الدواء. فهذا لا يدل على وجوبه، كما يؤلمه بضرب التأديب لمصلحته ويخرج من ماله أجرة المؤدّب والمعلّم وكما يضحّي عنه. قال الخلال: باب الضحيّة في اليتيم، أخبرني حرب بن إسماعيل قال: قلت لأحمد: يضحّي عن اليتيم؟ قال نعم إذا كان له مال. وكذلك قال سفيان الثوري. قال جعفر بن محمّد النيسابوري: سمعت أبا عبد الله يسأل عن وصي يتيمة: يشتري لها أضحية؟ قال: نعم يشتري لها. قوله: لو لم يكن واجباً لما جاز للخاتن الإقدام عليه إلى آخره، ينتقض بإقدامه على قطع السلعة وتفتح غدّة في الجسد أو خراج في العنق والعضو التالف وقلع السن وقطع العروق وشق الجلد للحجامة والتشريط. فيجوز الإقدام على ما يباح للرجل قطعه فضلاً عمّا يستحب له ويسن وفيه مصلحة ظاهرة.

قولكم: إن الأغلف معرّض لفساد طهارته وصلاته، فهذا إنّما يلام عليه إذا كان باختياره. وما خرج عن إختياره وقدرته لم يلم عليه ولم تفسد طهارته، كسلس البول والرعاف وسلس المذي. فإذا فعل ما يقدر عليه من الإستجمار والإستنجاء لم يؤاخذ بما عجز عنه.

قولكم: إنه من شعار عبّاد الصلبان وعبّاد النيران، فموافقتهم فيه موافقة في شعائر دينهم. جوابه أنهم لم يتميّزوا عن الحنفاء بمجرّد ترك الختان، وآنا إمتازوا بمجموع ما هم عليه من الدين الباطل. وموافقة المسلم لهم في ترك الختان لا تستلزم موافقتهم في شعار دينهم الذي إمتازوا به عن الحنفاء.

فصل: [أدلّة الموجبين للختان]

قال الموجبون: الختان علم الحنيفيّة وشعار الإسلام ورأس الفطرة وعنوان الملّة. وإذا كان النبي (ص) قد قال: «من لم يأخذ من شاربه فليس منّا»3 فكيف من عطّل الختان ورضي شعار الغلف عبّاد الصلبان؟ ومن أظهر ما يفرّق بين عبّاد الصلبان وعباد الرحمن الختان، وعليه إستمر عمل الحنفاء من عهد إمامهم إبراهيم إلى عهد خاتم الأنبياء. فبعث بتكميل الحنيفيّة وتقريرها لا بتحويلها وتغييرها. ولمّا أمر الله به خليله وعلم أن أمره المطاع، ولا يجوز أن يعطّل ويضاع، بادر إلى إمتثال ما أمر به الحي القيّوم، وختن نفسه بالقدوم مبادرة إلى الإمتثال وطاعة لذي العزّة والجلال، وجعله فطرة باقية في عقبه إلى أن يرث الأرض ومن عليها. ولذلك دعا جميع الأنبياء من ذرّيته أممهم إليها حتّى عبد الله ورسوله وكلمته إبن العذراء البتول، فإنه إختتن متابعة لإبراهيم الخليل. والنصارى تقر بذلك وتعترف أنه من أحكام الإنجيل ولكن إتّبعوا أهواء قوم ضلّوا من قَبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السبيل.

حتّى لقد أذّن عالم أهل بيت رسول الله (ص) عبد الله بن عبّاس أذاناً سمعه الخاص والعام: إن من لم يختتن فلا صلاة له ولا تؤكل ذبيحته، فأخرجه من جملة أهل الإسلام. ومثل هذا لا يقال لتارك أمر هو بين تركه وفعله بالخيار، وإنّما يقال لما علم وجوبه عِلماً يقرب من الإضطرار. ويكفي في وجوبه أنه رأس خصال الحنيفيّة التي فطر الله عباده عليها ودعت جميع الرسل إليها. فتاركه خارج عن الفطرة التي بعث الله رسله بتكميلها. ومن ضيّع في تعطيلها مؤخّراً لما يستحق التقديم راغب عن مِلّة إبراهيم: «ومن يرغب عن مِلّة إبراهيم إلاّ من سفه نفسه ولقد اصطفيته في الدنيا وأنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربّه أسلم قال أسلمت لرب العالمين» (البقرة 131:2-132). فكما أن الإسلام له رأس الملّة الحنيفيّة وقوامها، فالإستسلام لأمره كمالها وتمامها.

فصل: [الجواب عن أدلّة القائلين بالسُنِّية]

وأمّا قوله في الحديث: «الختان سُنّة للرجال مَكرُمَة للنساء» فهذا حديث يروى عن إبن عبّاس بإسناد ضعيف، والملحوظ أنه موقوف عليه. ويروى أيضاً عن الحجّاج بن أرطأة، وهو ممّن لا يحتج به عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه عنه. وعن مكحول عن أبي أيّوب عن النبي (ص) فذكره. ذكر ذلك كلّه البيهقي. ثم ساق عن إبن عبّاس: إنه لا تُؤكل ذبيحة الأغلف ولا تُقبل صلاته ولا تجوز شهادته. ثم قال: وهذا يدل على أنه كان يُوجبه. وأن قوله: الختان سُنّة أراد به سُنّة النبي (ص) وأن رسول الله (ص) سَنّه وأمر به فيكون واجباً، إنتهى.

والسُنّة هي الطريقة. يقال: سننت له كذا: أي شرّعت. فقوله الختان سُنّة للرجال: أي مشروع لهم، لا أنه ندب غير واجب. فالسُنّة هي الطريقة المتّبعة وجوباً واستحباباً لقوله (ص) «من رغب عن سُنَّتي فليس منّي»4. وقوله: «عليكم بسُنَّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين من بعدي»5. وقال إبن عبّاس: من خالف السُنّة كفر، وتخصيص السُنّة بما يجوز تركه إصطلاح حادث، وإلاّ فالسُنّة ما سَنَّه رسول الله (ص) لأمّته من واجب ومستحب. فالسُنّة هي الطريقة وهي الشريعة والمنهاج والسبيل.

وأمّا قولكم: إن رسول الله (ص) قرنه بالمسنونات، فدلالة الإقتران لا تقوى على معارضة أدلّة الوجوب. ثم أن الخصال المذكورة في الحديث منها ما هو واجب كالمضمضة والإستنشاق والإستنجاء، ومنها ما هو مستحب كالسواك. وأمّا تقليم الأظفار فإن الظفر إذا طال جدّاً بحيث يجتمع تحته الوسخ وجب تقليمه لصحّة الطهارة، وأمّا قص الشارب - فالدليل يقتضي وجوبه إذا طال، وهذا الذي يتعيّن القول به لأمر رسول الله (ص) به ولقوله: «من لم يأخذ من شاربه فليس منّا»6.

وأمّا قول الحسن البصري: قد أسلم مع رسول الله (ص) الناس فما فتّش أحداً منهم، فجوابه أنهم إستغنوا عن التفتيش بما كانوا عليه من الختان. فإن العرب قاطبة كلّهم كانوا يختتنون واليهود قاطبة تختتن، ولم يبق إلاّ النصارى، وهم فرقتان: فرقة تختتن وفرقة لا تختتن. وقد علم كل من دخل في الإسلام منهم ومن غيرهم أن شعار الإسلام الختان. فكانوا يبادرون إليه بعد الإسلام كما يبادرون إلى الغسل. ومن كان منهم كبيراً فشق عليه ويخاف التلف سقط عنه. وقد سئل الإمام أحمد عن ذبيحة الأغلف وذكر له حديث إبن عبّاس: لا تؤكل، فقال: ذلك عندي، إذا ولد بين أبوين مسلمين فكبر ولم يختتن. وأمّا الكبير إذا أسلم وخاف على نفسه الختان فله عندي رخصة.

وأمّا قولهم: إن الملّة هي التوحيد. فالملّة هي الدين وهي مجموع أقوال وأفعال واعتقاد. ودخول الأعمال في الملّة كدخول الإيمان. فالملّة هي الفطرة وهي الدين. ومحال أن يأمر الله سبحانه بإتّباع إبراهيم في مجرّد الكلمة دون الأعمال وخصال الفطرة. وإنّما أمر بمتابعته في توحيده وأقواله فوفّاه كما أمر. فإن لم نفعل كما فعل لم نكن متّبعين له.

وأمّا قَدحَكُم في حديث عثيم بن كليب عن أبيه عن جدّه بأنه من رواية إبراهيم بن أبي يحيى، فالشافعي كان حسن الظن به، وغيره يضعفه. فحديثه يصلح للإعتضاد بحيث يتقوّى به. وإن لم يحتج به بمفرده. وكذلك الكلام في مرسل الزهري: فإذا لم يحتج به وحده فإن هذه المرفوعات والموقوفات والمراسيل يشد بعضها بعضاً. وكذلك الكلام في حديث موسى بن إسماعيل وشبهه.

وأمّا قولكم: إن إبن عبّاس تفرّد بقوله في الأغلف: لا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له. فهذا قول صحابي. وقد إحتج الأئمّة الأربعة وغيرهم بأقوال الصحابة وصرّحوا بأنها حجّة. وبالغ الشافعي في ذلك وجعل مخالفتها بدعة. كيف ولم يحفظ عن صحابي خلاف إبن عبّاس. ومثل هذا التشديد والتغليظ لا يقوله عالم مثل إبن عبّاس في ترك مندوب يخيَّر الرجل بين فعله وتركه.

وأمّا قولكم: إن الشعائر تنقسم إلى مستحب وواجب، فالأمر كذلك ولكن مثل هذا الشعار العظيم الفارق بين عبّاد الصلبان وعباد الرحمن الذي لا تتم الطهارة إلاّ به، وتركه شعار عبّاد الصلبان لا يكون إلاّ من أعظم الواجبات.

وأمّا قولكم: أين باب العقوبات من باب الختان. فنحن لم نجعل ذلك أصلاً في وجوب الختان. بل إعتبرنا وجوب أحدهما بوجوب الآخر، فإن أعضاء المسلم وظهره ودمه حرام إلاّ من حد أو حق. وكلاهما يتعيّن إقامته. ولا يجوز تعطيله. وأمّا كشف العورة له فلو لم تكن مصلحة أرجح من مفسدة كشفها والنظر إليها ولمسها لم يجز إرتكاب ثلاث مفاسد عظيمة لأمر مندوب يجوز فعله وتركه. وأمّا المداواة فتلك من تمام الحياة وأسبابها التي لا بد للبيّنة منها. فلو كان الختان من باب المندوبات لكان بمنزلة كشفها، لما لا تدعو الحاجة إليه وهذا لا يجوز.

وأمّا قولكم: إن الولي يخرج من مال الصبي أجرة المعلّم والمؤدّب، فلا ريب أن تعليمه وتأديبه حق واجب على الولي، فما أخرج ماله إلاّ فيما بد له من صلاحه في دنياه وآخرته منه. فلو كان الختان مندوباً محضاً لكان إخراجه بمنزلة الصدقة والتطوّع عنده وبذله لمن يحج عنه حجّة التطوّع ونحو ذلك. وأمّا الأضحية عنه فهي مختلف في وجوبها. فمن أوجبها لم يخرج ماله إلاّ في واجب. ومن رآها سُنّة قال ما يحصل بها من جبر قلبه والإحسان إليه وتفريحه أعظم من بقاء ثمنها في ملكه.

الفصل الخامس: في وقت وجوبه

ووقته عند البلوغ لأنه وجوب العبادات عليه، ولا تجب قَبل ذلك. وفي صحيح البخاري: من حديث سعيد بن جبير قال: سئل إبن عبّاس رضي الله عنهما: مثل من أنت حين قبض رسول الله (ص)؟ قال: أنا يومئذ مختون7. وكانوا لا يختنون الرجل حتّى يدرك. وقد أختلف في سن إبن عبّاس عند وفاة النبي (ص). فقال الزبير والواقدي: ولد في الشعب قَبل خروج بني هاشم منه قَبل الهجرة بثلاث سنين وتوفّى رسول الله (ص) وله ثلاث عشرة سنة.

وقال سعيد بن جبير عن إبن عبّاس: توفّى رسول الله (ص) وأنا إبن عشر سنين. وقد قرأت المحكم: يعني المفصّل. قال أبو عمر: روينا ذلك عنه من وجوه. قال وقد روي عن إبن إسحاق عن سعيد بن جبير عن إبن عبّاس: قبض رسول الله (ص) وأنا ختين أو مختون. ولا يصح. قلت بل هو أصح شيء في الباب وهو الذي رواه البخاري في صحيحه كما تقدّم لفظه. وقال عبد الله بن الإمام أحمد: حدّثنا أبي حدّثنا سليمان بن داود، حدّثنا شعبة عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن إبن عبّاس قال: توفّى رسول الله (ص) وأنا إبن خمس عشرة سنة. قال عبد الله قال أبي: وهذا هو الصواب.

قلت: وفي الصحيحين عنه قال: أقبلت راكباً على أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الإحتلام ورسول الله (ص) يصلّي بالناس بمنى إلى غير جدار. فمررت بين يدي بعض الصف، الحديث8. والذي عليه أكثر أهل السير والأخبار أن سنّه كانت يوم وفاة النبي (ص) ثلاث عشرة سنة فإنه ولد في الشعب وكان قَبل الهجرة بثلاث سنين وأقام رسول الله (ص) بالمدينة عشراً. وقد أخبر أنه كان يومئذ مختوناً. قالوا: ولا يجب الختان قَبل البلوغ لأن الصبي ليس أهلاً لوجوب العبادات المتعلّقة بالأبدان، فما الظن بالجرح الذي ورد التعبّد به، ولا ينتقص هذا بالعدّة التي تجب على الصغيرة فإنها لا مؤونة عليها فيها، إنّما هي مضي الزمان. قالوا فإذا بلغ الصبي وهو أغلف أو المرأة غير مختونة ولا عُذر لهما ألزمهما السلطان به. وعندي أنه يجب على الولي أن يختن الصبي قَبل البلوغ بحيث يبلغ مختوناً فإن ذلك ممّا لا يتم الواجب إلاّ به.

وأمّا قول إبن عبّاس: كانوا لا يختنون الرجل حتّى يدرك أي حتّى يقارب البلوغ كقوله تعالى: «فإذا بلغن أجلهن فامسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف» (الطلاق 2:65). وبعد بلوغ الأجل لا يتأتّى الإمساك. وقد صرّح إبن عبّاس أنه كان يوم موت النبي (ص) مختوناً. وأخبر في حجّة الوداع التي عاش بعدها رسول الله (ص) بضعة وثمانين يوماً أنه قد ناهز الإحتلام. وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام الأباء أن يأمروا أولادهم بالصلاة لسبع وأن يضربوهم على تركها لعشر. فكيف يسوغ لهم ترك ختانهم حتّى يجاوزوا البلوغ، والله أعلم.

الفصل السادس: في الإختلاف في كراهيّة يوم السابع

وقد أختلف في ذلك على قولين هما روايتان عن الإمام أحمد قال الخلال: باب ذكر ختان الصبي، أخبرني عبد الملك بن عبد الحميد أنه ذاكر أبا عبد الله ختانة الصبي لكم يختتن؟ قال لا ادري لم أسمع فيه شيئاً. فقلت إنه يشق على الصغير إبن عشر يغلظ عليه. وذكرت له إبني محمّد أنه في خمس سنين فاشتهي أن أختنه فيها ورأيته كأنه يشتهي ذلك. ورأيته يكره العشرة لغلظه عليه وشدّته. وقال لي: ظننت أن الصغير يشتد عليه هذا، ولم أره يكره للصغير للشهر أو السنة ولم يقل في ذلك شيئاً إلاّ أني رأيته يعجب من أن يكون هذا يؤذي الصغير.

قال عبد الملك وسمعته يقول: كان الحسن يكره أن يختتن الصبي يوم سابعه. أخبرنا محمّد بن علي السمسار قال حدّثنا مهنّا قال سألت أبا عبد الله عن الرجل يختتن إبنه لسبعة أيّام؟ فكره وقال هذا فعل اليهود. وقال لي أحمد بن حنبل: كان الحسن يكره أن يختن الرجل إبنه لسبعة أيّام. فقلت من ذكره عن الحسن؟ قال: بعض البصريين. وقال لي أحمد بلغني أن سفيان الثوري سأل سفيان بن عيينة في كم يختن الصبي؟ فقال سفيان: لو قلت له في كم ختن إبن عمر بنيه؟ فقال لي أحمد: ما كان أكيس سفيان بن عيينة لها. يعني حين قال: لو قلت له: في كم ختن إبن عمر بنيه؟

أخبرني عصمة بن عصام حدّثنا حنبل أن أبا عبد الله قال: وإن ختن يوم السابع فلا بأس وإنّما كره الحسن كيلا يتشبّه باليهود وليس في هذا شيء. وأخبرني محمّد بن علي حدّثنا صالح أنه قال لأبيه: يختن الصبي لسبعة أيّام؟ قال: يروى عن الحسن أنه قال: فعل اليهود. قال: وسئل وهب بن منبه عن ذلك؟ فقال إنّما يستحب ذلك في اليوم السابع لخفّته على الصبيان فإن المولود يولد وهو خدر الجسد كلّه لا يجد ألم ما أصابه سبعا. وإذا لم يختتن لذلك فدعوه حتّى يقوى. وقال إبن المنذر في ذكر وقت الختان: وقد إختلفوا في وقت الختان فكرهت طائفة أن يختتن الصبي يوم سابعه، كره ذلك حسن البصري ومالك بن أنس خلافاً على اليهود. وقال الثوري: هو خطر. قال مالك: والصواب في خلاف اليهود. قال: وعامّة ما رأيت الختان ببلدنا إذا ثغر. وقال أحمد بن حنبل: لم أسمع في ذلك شيئاً.

وقال الليث بن سعد: الختان للغلام ما بين السبع سنين إلى العشرة، قال: وقد حكي عن مكحول عن غيره أن إبراهيم خليل الرحمن ختن إبنه إسحاق لسبعة أيّام وختن إبنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة. وروي عن أبي جعفر: إن فاطمة كانت تختن ولدها يوم السابع. قال إبن المنذر: ليس في هذا الباب نهي يثبت وليس لوقوع الختان خبر يرجع إليه ولا سُنّة تستعمل. فالأشياء على الإباحة ولا يجوز حظر شيء منها إلاّ بحجّة ولا نعلم مع من منع أن يختتن الصبي لسبعة أيّام حجّة.

وفي سُنَن البيهقي من حديث زهير بن محمّد عن محمّد بن المنكدر عن جابر قال: عق رسول الله (ص) عن الحسن والحسين وختنهما لسبعة أيّام9. وفيها من حديث موسى بن علي بن رباح عن أبيه أن إبراهيم ختن إسحاق وهو إبن سبعة أيّام وختن إسماعيل عند بلوغه10. فصار ختان إسحاق سُنّة في بنيه، وختان إسماعيل سُنّة في بنيه، والله أعلم.

الفصل السابع: في حِكمة الختان وفوائده

الختان من محاسن الشرائع التي شرّعها الله سبحانه لعباده، وكمّل بها محاسنهم الظاهرة والباطنة فهو مكمّل الفطرة التي فطرهم عليها. ولهذا كان من تمام الحنيفيّة مِلّة إبراهيم، وأصل مشروعيّة الختان لتكميل الحنيفيّة. فإن الله عز وجل لمّا عاهد إبراهيم ووعده أن يجعله إماماً، وعده أن يكون أبا لشعوب كثيرة وأن تكون الأنبياء والملوك من صلبه وأن يكثر نسله، وأخبره أنه جاعل بينه وبين نسله علامة العهد أن يختنوا كل مولود منهم، ويكون عهدي هذا ميسماً في أجسادهم. فالختان علم للدخول في مِلّة إبراهيم، وهذا موافق لتأويل من تأوّل قوله تعالى: «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» (البقرة 138:2) على الختان.

فالختان للحنفاء بمنزلة الصبغ والتعميد لعبّاد الصليب. فهم يطهّرون أولادهم بزعمهم حين يصبغونهم في ماء المعموديّة. ويقولون الآن صار نصرانياً. فشرّع الله سبحانه للحنفاء صبغة الحنيفيّة وجعل ميسمها الختان فقال: «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» (البقرة 138:2) وقد جعل الله سبحانه السمات علامات لمن يضاف إليه المعلّم بها. ولهذا الناس يسمون دوابهم ومواشيهم بأنواع السمات حتّى يكون ما يضاف منها إلى كل إنسان معروفاً بسمته، ثم قد تكون هذه السمة متوارثة في أمّة بعد أمّة.

فجعل الله سبحانه الختان عَلماً لمن يضاف إليه وإلى دينه وملّته وينسب إليه بنسبة العبوديّة والحنيفيّة. حتّى إذا جهلت حال الإنسان في دينه عرف بسمة الختان ودينه. وكانت العرب تدعى بأمّة الختان. ولهذا في حديث هرقل: إني أجد ملك الختان قد ظهر. فقال له أصحابه: لا يهمّنك هذا فإنّما تختتن اليهود فأقتلهم. فبينما هم على ذلك وإذا برسول رسول الله (ص) قد جاء بكتابه. فأمر أن يكشف وينظر هل هو مختون؟ فوجد مختوناً. فلمّا أخبره أن العرب تختتن قال: هذا ملك هذه الأمّة. ولمّا كانت وقعة اجنادين بين المسلمين والروم جعل هشام بن العاص يقول: يا معشر المسلمين إن هؤلاء الغلف لا صبر لهم على السيف. فذكرهم بشعار عبّاد الصليب ودينهم وجعله ممّا يوجب إقدام الحنفاء عليهم وتطهير الأرض منهم.

والمقصود أن صبغة الله هي الحنيفيّة التي صبغت القلوب بمعرفته ومحبّته والإخلاص له وعبادته وحده لا شريك له، وصبغة الأبدان بخصال الفطرة من الختان والإستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط والمضمضة والإستنشاق والسواك والإستنجاء فظهرت فطرة الله على قلوب الحنفاء وأبدانهم.

قال محمّد بن جرير في قوله تعالى: «صبغة الله» يعنى بالصبغة صبغة الإسلام. وذلك أن النصارى إذا أرادت أن تنصّر أطفالها جعلتهم في ماء لهم. وتزعم أن ذلك ممّا يقدّس بمنزلة الختان لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانيّة. فقال الله جل جلاله لنبيّه (ص) لمّا قال اليهود والنصارى: «كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا. قل بل مِلّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» إلى قوله: «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة» (البقرة 135:2 و138).

قال قتادة أن اليهود تصبغ أبناءها يهوداً والنصارى تصبغ أبناءها نصارى. وإن صبغة الله: الإسلام، فلا صبغة أحسن من الإسلام ولا أطهر. وقال مجاهد صبغة الله: فطرة الله. وقال غيره دين الله. هذا مع ما في الختان من الطهارة والنظافة والتزيين وتحسين الخلقة وتعديل الشهوة التي إذا أفرطت ألحقت الإنسان بالحيوانات، وإن عدمت بالكلّية ألحقته بالجمادات. فالختان يعدّلها ولهذا تجد الأغلف من الرجال والغلفاء من النساء لا يشبع من الجماع.

ولهذا يذم الرجل ويشتم ويعيّر بأنه إبن الغلفاء - إشارة إلى غلمتها. وأي زينة أحسن من أخذ ما طال وجاوز الحد من جلدة الغلفة وشعر العانة وشعر الإبط وشعر الشارب وما طال من الظفر. فإن الشيطان يختبئ تحت ذلك كلّه ويألفه ويقطن فيه. حتّى أنه ينفخ في إحليل الأغلف وفرج الغلفاء ما لا ينفخ في المختون ويختبئ في شعر العانة وتحت الأظفار. فالغرلة أقبح في موضعها من الظفر الطويل والشارب الطويل والعانة الفاحشة الطول. ولا يخفى على ذي الحس السليم قبح الغرلة وما في إزالتها من التحسين والتنظيف والتزيين. ولهذا لمّا إبتلى الله خليله إبراهيم بإزالة هذه الأمور فأتمّهن، جعله إماماً للناس، هذا مع ما فيه من بهاء الوجه وضيائه، وفي تركه من الكسفة التي ترى عليه.

وقد ذكر حرب في مسائله عن ميمونة زوج النبي (ص) أنها قالت للخاتنة: «إذا خفضت فأشِمِّي ولا تُنهِكي، فإنه أسرى للوجه وأحظى لها عند زوجها»11. وروى أبو داوود عن أم عطيّة أن رسول الله (ص) أمر ختّانة تختن فقال: «إذا ختنت فلا تُنهِكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل»12. ومعنى هذا أن الخفّاضة إذا إستأصلت جلدة الختان ضعفت شهوة المرأة فقلّت حظوتها عند زوجها. كما أنها إذا تركتها كما هي لم تأخذ منها شيئاً إزدادت غلمتها. فإذا أخذت منها وأبقت، كان في ذلك تعديلاً للخلقة والشهوة. هذا مع أنه لا ينكر أن يكون قطع هذه الجلدة عَلماً على العبوديّة. فإنك تجد قطع طرف الأذن وكي الجبهة ونحو ذلك في كثير من الرقيق علامة لرقّهم وعبوديّتهم. حتّى إذا أبق رد إلى مالكه بتلك العلامة. فما ينكر أن يكون قطع هذا الطرف عَلماً على عبوديّة صاحبه لله سبحانه حتّى يعرف الناس أن من كان كذلك فهو من عبيد الله الحنفاء. فيكون الختان عَلماً لهذه السُنّة التي لا أشرف منها مع ما فيه من الطهارة والنظافة والزينة وتعديل الشهوة.

وقد ذكر في حِكمة خفض النساء أن سارة لمّا وهبت هاجر لإبراهيم أصابها فحملت منه فغارت سارة فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء فخاف إبراهيم أن تجدع أنفها وتقطع أذنها. فأمرها بثقب أذنيها وختانها. وصار ذلك سُنّة في النساء بعد. ولا ينكر هذا كما كان مبدأ السعي سعي هاجر بين جبلين تبغي لابنها الغوث، وكما كان مبدأ الجمار حصب إسماعيل للشيطان لما ذهب مع أبيه، فشرّع الله سبحانه لعباده تذكرة وإحياء لسُنّة خليله وإقامة لذكره وإعظاماً لعبوديّته، والله أعلم.

الفصل الثامن: في بيان القدر الذي يؤخذ في الختان

قال أبو البركات في كتاب الغاية: ويؤخذ في ختان الرجل جلدة الحشفة وإن إقتصر على أخذ أكثرها جاز ويستحب لخافضة الجارية أن لا تحيف، نص عليه. وحكى عن عمر أنه قال للخاتنة: أبقي منه شيئاً إذا خفضت. وقال الخلال في جامعه: ذكر ما يقطع في الختانة، أخبرني محمّد بن الحسين أن الفضل بن زياد حدّثهم قال سئل أحمد كم يقطع في الختانة؟ قال: حتّى تبدو الحشفة. وأخبرني عبد الملك الميموني قال: قلت يا أبا عبد الله مسألة سئلت عنها: خَتَّان ختن صبيّاً فلم يستقص. فقال: إذا كان الختان قد جاز نصف الحشفة إلى فوق فلا يعتد به لأن الحشفة تغلظ، وكلّما غلظت هي إرتفعت الختانة. ثم قال لي: إذا كانت دون النصف أخاف. قلت له: فإن الإعادة عليه شديدة جدّاً ولعلّه قد يخاف عليه الإعادة. قال: أيش يخاف عليه؟ ورأيت سهولة الإعادة إذا كانت الختنة في أقل من نصف الحشفة إلى أسفل. وسمعته يقول: هذا شيء لا بد أن تتيسّر فيه الختانة.

وقال إبن الصبّاغ في الشامل: الواجب على الرجل أن يقطع الجلدة التي على الحشفة حتّى تنكشف جميعها. وأمّا المرأة لها عذرتان: إحداهما بكارتها والأخرى هي التي يجب قطعها - وهي كعرف الديك في أعلى الفرج بين الشفرين، إذا قطعت يبقى أصلها كالنواة. وقال الجويني في نهايته: المستحق في الرجال قطع الغلفة وهي الجلدة التي تغشّي الحشفة والغرض أن تبرز، ولو فرض مقدار منه على الكمرة لا تنبسط على سطح الحشفة، فيجب قطعه حتّى لا تبقي الجلدة متدليّة.

وقال إبن كج: عندي يكفي قطع شيء من الغلفة وإن قل، بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. وقال الجويني: القدر المستحق من النساء ما يطلق عليه الإسم. قال في الحديث ما يدل على الأمر بالإقلال. قال (ص): «أشِمِّي ولا تُنهِكي». أي أتركي الموضع أشم. والأشم المرتفع. قال الماوردي: والسُنّة أن يستوعب الغلفة تغشّي الحشفة بالقطع من أصلها، وأقل ما يجزئ فيه إلاّ أن يتغشّى بها شيء من الحشفة. وأمّا خفض المرأة فهو قطع جلدة في الفرج فوق مدخل الذكر ومخرج البول على أصل كالنواة، ويؤخذ منه الجلدة المستعلية دون أصلها وقد بان بهذا أن القطع في الختان ثلاثة أقسام: سُنّة وواجب وغير مجزي على ما تقدّم، والله أعلم.

الفصل التاسع: في أن حُكمه يعم الذكر والأنثى

قال صالح بن أحمد: إذا جامع الرجل إمرأته ولم ينزل، قال: إذا إلتقى الختانان وجب الغسل. قال أحمد: وفي هذا أن النساء كن يختتن. وسئل عن الرجل تدخل عليه إمرأته فلم يجدها مختونة أيجب عليها الختان؟ قال الختان سُنّة. قال الخلال: وأخبرني أبو بكر المروزي وعبد الكريم الهيثم ويوسف بن موسى، دخل كلام بعضهم في بعض أن أبا عبد الله سئل عن المرأة تدخل على زوجها ولم تختتن أيجب عليها الختان؟ فسكت والتفت إلى أبي حفص فقال: تعرف في هذا شيئاً؟ قال لا. فقيل له أتى عليها ثلاثون وأربعون سنة فسكت. قيل له: فإن قدرت على أن تختتن؟ قال: حسن.

قال: وأخبرني محمّد بن يحيى الكحّال، قال: سألت أبا عبد الله عن المرأة تختتن؟ فقال: قد خرجت فيه أشياء. ثم قال: ونظرت فإذا خبر النبي (ص) حين يلتقي الختانان ولا يكون واحداً إنّما هو إثنان. قلت لأبي عبد الله: فلا بد منه. قال: الرجل أشد وذلك أن الرجل إذا لم يختتن فتلك الجلدة مدلاّة على الكمرة فلا ينقى ما ثمَّ والنساء أهون. قلت: لا خلاف في إستحبابه للأنثى. واختلف في وجوبه، وعن أحمد في ذلك روايتان. إحداهما: يجب على الرجال والنساء، والثانية: يختص وجوبه بالذكور وحجّة هذه الرواية: حديث شدّاد بن أوس: «الختان سُنّة للرجال مَكرُمَة للنساء». ففرّق فيه بين الذكور والإناث. ويحتج لهذا القول إن الأمر به جاء للرجال كما أمر الله سبحانه به خليله عليه السلام، ففعله إمتثالاً لأمره. وأمّا ختان المرأة سببه يمين سارة كما تقدّم. قال الإمام أحمد: لا تحيف خافضة الجارية لأن عمر قال للخاتنة: أبقي منه شيئاً إذا خفضت. وذكر الإمام أحمد عن أم عطيّة: إن الرسول (ص) أمر ختّانة تختن فقال: «إذا ختنت فلا تُنهِكي، فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل»13.

والحِكمة التي ذكرناها في الختان، تعم الذكر والأنثى، وإن كانت في الذكر أبين والله أعلم.

الفصل العاشر: في حُكم جناية الخاتن وسراية الختان

قال الله تعالى: «ما على المحسنين من سبيل» (التوبة 91:9). وفي السُنَن من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عن النبي (ص) أنه قال: «من طبّب ولم يعلم منه طب فهو ضامن»14.

أمّا جناية يد الخاتن فمضمونة عليه أو على عاقلته كجناية غيره. فإن زادت على ثلث الديّة كانت على العاقلة. وإن نقصت عن الثلث فهي في ماله. وأمّا ما تلف بالسراية فإن لم يكن من أهل العلم بصناعته ولم يُعرف بالحذق فيها، فإنه يضمنها لأنها سراية جرح لم يجز الإقدام عليه. فهي كسراية الجناية وقد إتّفق الناس على أن سراية الجناية مضمونة. واختلفوا فيما عداها. فقال أحمد ومالك: لا تضمن سراية مأذون فيه حدّا كان أو تأديباً، مقدّراً كان أو غير مقدّر، لأنها سراية مأذون فيه، فلم يضمن كسراية إستيفاء منفعة النكاح وإزالة البكارة وسراية الفصد والحجامة والختان وبط الدمل وقطع السلعة المأذون فيه لحاذق لم يتعدّ. وقال الشافعي: لا يضمن سراية المقدر حداً كان أو قصاصاً، ويضمن سراية غير المقدّر والتأديب، لأن التلف به دليل على التجاوز والعدوان.

وقال أبو حنيفة: لا يضمن سراية الواجب خاصّة ويضمن سراية القود، لأنه إنّما أبيح له إستيفاؤه لشرط السلامة. والسُنّة الصحيحة تخالف هذا القول. وإن كان الخاتن عارفاً بالصناعة وختن المولود في الزمن الذي يختتن في مثله وأعطى الصناعة حقّها لم يضمن سراية الجرح إتّفاقاً كما لو مرض المختون من ذلك ومات. فإن أذن له أن يختنه في زمن حر مفرط أو برد مفرط أو حال ضعف يخاف عليه منه، فإن كان بالغاً عاقلاً لم يضمنه، لأنه أسقط حقّه بالإذن فيه. وإن كان صغيراً ضمنه لأنه لا يعتبر إذنه شرعاً. وإن أذن فيه وليّه، فهذا موضع نظر هل يجب الضمان على الولي أو على الخاتن؟ ولا ريب أن الولي المتسبّب والخاتن المباشر. فالقاعدة تقتضي تضمين المباشر لأنه يمكن الإحالة عليه بخلاف ما إذا تعذّر تضمينه. فهذا تفصيل القول في جناية الخاتن وسراية ختانه، والله أعلم.

الفصل الحادي عشر: في أحكام الأغلف من طهارته وصلاته وذبيحته وشهادته وغير ذلك

قال الخلال: أخبرني محمّد بن إسماعيل حدّثنا وكيع عن سالم بن العلاء المرادي عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد عن إبن عبّاس قال: الأغلف لا تُقبل له صلاة ولا تُؤكل ذبيحته. قال وكيع: الأغلف إذا بلغ فلم يختتن لم نجز شهادته. أخبرني عصمة بن عصام، حدّثنا حنبل قال: حدّثني أبو عبد الله، حدّثنا محمّد بن عبيد عن سالم المرادي عن عمرو بن هرم عن جابر بن زيد عن إبن عبّاس: لا تؤكل ذبيحة الأغلف.

قال حنبل في موضع آخر: حدّثنا أبو عمرو الحوضي حدّثنا همام عن قتادة عن عكرمة قال: لا تؤكل ذبيحة الأغلف. قال: وكان الحسن لا يرى ما قال عكرمة. قال: قيل لعكرمة أن حج؟ قال: لا. قال حنبل: قال أبو عبد الله: لا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له ولا حج حتّى يتطهّر. هو من تمام الإسلام. وقال حنبل في موضع آخر: قال أبو عبد الله: الأغلف لا يذبح ولا تؤكل ذبيحته ولا صلاة له.

وقال عبد الله بن أحمد: حدّثني أبي حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم حدّثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن جابر بن زيد عن إبن عبّاس قال: الأغلف لا تحل له صلاة ولا تؤكل ذبيحته ولا تجوز له شهادة. قال قتادة: وكان الحسن لا يرى ذلك. وقال إسحاق بن منصور: قلت لأبي عبد الله: ذبيحة الأغلف؟ قال لا بأس بها. وقال أبو طالب، سألت أبا عبد الله عن ذبيحة الأغلف؟ فقال: إبن عبّاس شدّد في ذبيحته جدّاً. وقال الفضل بن زياد: سألت أبا عبد الله عن ذبيحة الأغلف؟ فقال يروى عن إبراهيم والحسن وغيرهما: إنهم كانوا لا يرون بها بأساً إلاّ شيئاً يروى عن جابر بن زيد عن إبن عبّاس أنه كرهه.

قال أبو عبد الله: وهذا يشتد على الناس. فلو أن رجلاً أسلم وهو كبير فخافوا عليه الختان، أفلا تؤكل ذبيحته؟ وذكر الخلال عن أبي السمح أحمد إبن عبد الله بن ثابت قال: سمعت أحمد بن حنبل وسئل عن ذبيحة الأغلف، وذكر له حديث إبن عبّاس: لا تؤكل ذبيحته. فقال أحمد: ذاك عندي. إذا كان الرجل يولد بين أبوين مسلمين فكيف لا يختتن؟ فأمّا الكبير إذا أسلم وخاف على نفسه الختان فله عندي رخصة. ثم ذكر قصّة الحسن مع أمير البصرة الذي ختن الرجال في الشتاء فمات بعضهم. قال: فكان أحمد يقول: إذا أسلم الكبير وخاف على نفسه فله عندي عذر.

الفصل الثاني عشر: في المسقطات لوجوبه

وهي أمور، أحدها: أن يولد الرجل ولا غلفة له. فهذا مستغن عن الختان، إذا لم يخلق له ما يجب ختانه. وهذا متّفق عليه. لكن قال بعض المتأخّرين: يستحب إمرار الموسى على موضع الختان لأنه ما يقدر عليه من المأمور به. وقد قال النبي (ص): «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما إستطعتم»15. وقد كان الواجب أمرين مباشرة الحديدة والقطع. فإذا سقط القطع فلا أقل من إستحباب مباشرة الحديدة. والصواب أن هذا مكروه لا يتقرّب إلى الله به ولا يتعبّد بمثله وتنزّه عنه الشريعة، لأنه عبث لا فائدة فيه وإمرار الموسى غير مقصود بل هو وسيلة إلى فعل المقصود. فإذا سقط المقصود لم يبق للوسيلة معنى. ونظير هذا ما قال بعضهم: إن الذي لم يخلق على رأسه شعر يستحب له في النسك أن يمر الموس على رأسه، ونظير قول بعض المتأخّرين من أصحاب أحمد وغيرهم: إن الذي لا يحسن القراءة ولا الذكر أو أخرس يحرّك لسانه حركة مجرّدة.

قال شيخنا: ولو قيل: إن الصلاة تبطل بذلك أقرب لأنه عبث ينافي الخشوع وزيادة عمل غير مشروع. والمقصود أن هذا الذي ولد ولا غلفة له فلا ختان عليه. كانت العرب تزعم أنه إذا ولد في القمر تقلّصت غلفته وتجمّعت. ولهذا يقولون ختنه القمر، وهذا غير مطرد ولا هو أمر مستمر، فلم يزل الناس يولدون في القمر والذي يولد بلا غلفة نادر جدّاً. ومع هذا فلا يكون زوال الغلفة تامّاً، بل يظهر رأس الحشفة، بحيث يبين مخرج البول. ولهذا لا بد من ختانه ليظهر تمام الحشفة وأمّا الذي يسقط ختانه فإن تكون الحشفة كلّها ظاهرة. وأخبرني صاحبنا محمّد بن عثمان الخليلي المحدّث ببيت المقدس أنه ممّن ولد كذلك، والله أعلم.

الثاني من مسقطاته: ضعف المولود عن إحتماله بحيث يخاف عليه من التلف ويستمر به الضعف كذلك. فهذا يعذر في تركه إذ غايته أنه واجب فيسقط بالعجز عنه كسائر الواجبات.

الثالث: إن يسلم الرجل كبيراً ويخاف على نفسه منه فهذا يسقط عنه عند الجمهور. ونص عليه الإمام أحمد في رواية جماعة من أصحابه، وذكر قول الحسن أنه قد أسلم في زمن رسول الله (ص): الرومي والحبشي والفارسي فما فتّش أحداً منهم. وخالف سحنون بن سعيد الجمهور فلم يسقطه عن الكبير الخائف على نفسه. وهو قول في مذهب أحمد حكاه إبن تميم وغيره.

الرابع: وظاهر كلام أصحابنا أنه يسقط وجوبه فقط عند خوف التلف. والذي ينبغي أن يمنع من فعله ولا يجوز له. وصرّح به في شرح الهداية: فقال يمنع منه. ولهذا نظائر كثيرة، منها الإغتسال بالماء البارد في حال قوّة البرد والمرض، وصوم المريض الذي يخشى تلفه بصومه وإقامة الحد على المريض والحامل وغير ذلك. فإن هذه الإعذار كلّها تمنع إباحة الفعل كما تسقط وجوبه.

الخامس: الموت فلا يجب ختان الميّت باتّفاق الأمّة. وهل يستحب؟ فجمهور أهل العلم على أنه لا يستحب، وهو قول الأئمّة الأربعة. وذكر بعض الأئمّة المتأخّرين أنه مستحب، وقاسه على أخذ شاربه وحلق عانته ونتف إبطه وهذا مخالف لما عليه عمل الأمّة وهو قياس فاسد. فإن أخذ الشارب وتقليم الظفر وحلق العانة من تمام طهارته وإزالة وسخه ودرنه. وأمّا الختان: وهو قطع عضو من أعضائه، والمعنى الذي شرّع في الحياة قد زال بالموت فلا مصلحة في ختانه. وقد أخبر النبي (ص) أنه يبعث يوم القيامة بغرلته غير مختون. فما الفائدة أن يقطع منه عند الموت عضو يبعث به يوم القيامة وهو من تمام خلقه في النشأة الأخرى؟!

السادس: ولا يمنع الإحرام من الختان، نص عليه الإمام أحمد. وقد سئل عن المحرّم يختتن؟ فقال نعم. فلم يجعله من باب إزالة الشعر وتقليم الظفر لا في الحياة ولا بعد الموت.

الفصل الثالث عشر: في ختان النبي (ص)

وقد أختلف فيه على أقوال. أحدها: إنه ولد مختوناً. والثاني أن جبريل ختنه حين شق صدره. والثالث أن جدّه عبد المطّلب ختنه على عادة العرب في ختان أولادهم. ونحن نذكر قائلي هذه الأقوال وحججهم.

فأمّا من قال ولد مختوناً فاحتجّوا بأحاديث، أحدها: ما رواه أبو عمر بن عبد البر، فقال وقد روى أن النبي (ص) ولد مختوناً، من حديث عبد الله بن عبّاس عن أبيه العبّاس بن عبد المطّلب قال: ولد رسول الله (ص) مختوناً مسروراً16. يعني مقطوع السرّة فاعجب ذلك جدّه عبد المطّلب وقال: ليكونن لابني هذا شأن عظيم. ثم قال إبن عبد البر: ليس إسناد حديث العبّاس هذا بالقائم. قال: وقد روي موقوفاً على إبن عمر ولا يثبت أيضاً. قلت: حديث إبن عمر رويناه من طريق أبي نعيم حدّثنا أبو الحسن أحمد بن محمّد بن خالد الخطيب حدّثنا محمّد بن محمّد بن سليمان حدّثنا عبد الرحمن بن أيّوب الحمصي حدّثنا موسى بن أبي موسى المقدمي حدّثنا خالد بن سلمة عن نافع عن إبن عمر قال: ولد النبي (ص) مسروراً مختوناً. لكن محمّد بن سليمان هذا هو الباغندي وقد ضعّفوه. وقال الدارقطني: كان كثير التدليس، يحدّث بما لم يسمع، وربّما سرق الحديث.

ومنها ما رواه الخطيب بإسناده من حديث سفيان بن محمّد المصيصي حدّثنا هشيم عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله (ص): «من كرامتي على الله إني ولدت مختوناً ولم يرني أحد»17. قال الخطيب: لم يروه فيما يقال غير يونس عن هشيم وتفرّد به سفيان بن محمّد المصيصي وهو منكر الحديث. قال الخطيب: أخبرني الأزهري قال: سئل الدارقطني عن سفيان بن محمّد المصيصي، وأخبرني أبو الطيّب الطبري قال: قال لنا الدارقطني شيخ لأهل المصيصة يقال له سفيان بن محمّد الفزاري كان ضعيفاً سيّئ الحال. وقال صالح بن محمّد الحافظ: سفيان بن محمّد المصيصي لا شيء. وقد رواه أبو القاسم بن عساكر من طريق الحسن بن عرفة حدّثنا هشيم عن الحسن عن أنس قال: قال رسول الله (ص): «من كرامتي على ربّي عز وجل إني ولدت مختوناً لم ير أحد سوءتي». وفي إسناده إلى الحسن بن عرفة عدّة مجاهيل.

قال أبو القاسم بن عساكر: وقد سرقه إبن الجارود وهو كذّاب، فرواه عن الحسن بن عرفة. وممّا إحتج به أرباب هذا القول ما ذكره محمّد بن علي الترمذي في معجزات النبي (ص) فقال: ومنها أن صفيّة بنت عبد المطّلب قالت: أردت أن أعرف أذكر أم أنثى، فرأيته مختوناً. وهذا الحديث لا يثبت، وليس له إسناد يعرف به. وإنّما قال أبو القاسم عمر بن أبي الحسن بن هبة الله بن أبي جرادة في كتاب صنّفه في ختان الرسول (ص)، يرد به على محمّد بن طلحة في تصنيف صنّفه، وقرّر فيه أن رسول الله (ص) ولد مختوناً. وهذا محمّد بن علي الترمذي الحكيم لم يكن من أهل الحديث، ولا علم له بطرقه وصناعته. وإنّما كان فيه الكلام على إشارات الصوفيّة والطرائق ودعوى الكشف على الأمور الغامضة والحقائق، حتّى خرج في الكلام على ذلك عن قاعدة الفقهاء واستحق الطعن عليه بذلك والإزدراء، وطعن عليه أئمّة الفقهاء والصوفيّة، وأخرجوه بذلك عن السيرة المرضيّة. وقالوا إنه أدخل في علم الشريعة ما فرّق به الجماعة. فاستوجب بذلك القدح والشناعة وملأ كتبه بالأحاديث الموضوعة وحشاها بالأخبار التي ليست بمرويّة ولا مسموعة، وعلّل فيها خفي الأمور الشرعيّة لا يعقل معناها، بعلل ما أضعفها وما أوهاها.

وممّا ذكر في كتاب له وسمه بالإحتياط أن يسجد عقب كل صلاة يصلّيها سجدتي السهو، وإن لم يكن سها فيها. وهذا ممّا لا يجوز فعله بالإجماع، وفاعله منسوب إلى الغلو والإبتداع. وما حكاه عن صفيّة بقولها فرأيته مختوناً يناقض الأحاديث الأخر وهو قوله لم ير سوءتي أحد. فكل حديث في هذا الباب يناقض الآخر. ولا يثبت واحد منهما. ولو ولد مختوناً فليس هذا من خصائصه (ص). فإن كثيراً من الناس يولد غير محتاج إلى الختان.

قال: وذكر أبو الغنائم النسابة الزيدي أن أباه القاضي أبا محمّد الحسن إبن الحسن الزيدي ولد غير محتاج إلى الختان. قال: ولهذا لقّب بالمطهّر. قال: قال فيما قرأته بخطّه: خلق أبو محمّد الحسن مطهّراً لم يختن وتوفّى كما خلق. وقد ذكر الفقهاء في كتبهم أن من ولد كذلك لا يختن. واستحسن بعضهم أن يمر الموسى على موضع الختان من غير قطع والعوام يسمّون هذا الختان: ختان القمر، يشيرون في ذلك إلى أن النمو في خلقة الإنسان يحصل في زيادة القمر، ويحصل النقصان في الخلقة عند نقصانه، كما يوجد ذلك في الجزر والمد، فينسبون النقصان الذي حصل في الغلفة إلى نقصان القمر.

قال: وقد ورد في حديث رواه سيف بن محمّد إبن أخت سفيان الثوري عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة عن النبي (ص) قال: إبن صياد ولد مسروراً مختوناً. وسيف مطعون في حديثه. وقيل إن قيصر ملك الروم الذي ورد عليه أمرؤ القيس ولد كذلك ودخل عليه أمرؤ القيس الحمّام فرآه كذلك فقال يهجوه:

إني حلفت يميناً غير كاذبة لأنت الأغلف إلاّ ما جنى القمر

يعيّره أنه لم يختتن وجعل ولادته لذلك نقصاً. وقيل أن هذا البيت أحد الأسباب الباعثة لقيصر على أن سم أمرؤ القيس فمات. وأنشد إبن الأعرابي فيمن ولد بلا غلفة:

فذاك نكس لا يبض حجره مخرق العرض حديد منظره

في ليل كانون شديد خصره عض بالحراف الزبانا قمره

يقول: هو أغلف ليس بمختون إلاّ ما قلص القمر. وشبّه غلفته بالزباني وهي قرنا العقرب. وكانت العرب لا تعتد بصورة الختان من غير ختان، وترى الفضيلة في الختان نفسه وتفخر به.

قال: وقد بعث الله نبيّنا (ص) من صميم العرب وخصّه بصفات الكمال من الخلق والخّلق والنسب. فكيف يجوز أن يكون ما ذكره من كونه مختوناً ممّا يميّز به النبي (ص) ويخصّص. وقيل أن الختان من الكلمات التي إبتلى الله بها خليله عليه الصلاة والسلام فأتمّهن وأكملهن (البقرة 124:2). وأشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل. وقد عد النبي (ص) الختان من الفطرة. ومن المعلوم أن الإبتلاء به مع الصبر عليه ممّا يضاعف ثواب المبتلى به وأجره. والأليق بحال النبي (ص) أن لا يسلب هذه الفضيلة وأن يكرّمه الله بها كما أكرم خليله. فإن خصائصه أعظم من خصائص غيره من النبيين وأعلى. وختن الملك إيّاه كما رويناه أجدر من أن يكون من خصائصه وأولى. وهذا كلّه كلام إبن العديم. ويريد بختن الملك ما رواه من طريق الخطيب عن أبي بكرة: «أن جبريل ختن النبي (ص) حين طهّر قلبه». وهو مع كونه موقوفاً على أبي بكرة لا يصح إسناده. فإن الخطيب قال فيه: أنبأنا أبو القاسم عبد الواحد بن عثمان بن محمّد البجلي أنبأنا جعفر بن محمّد بن نصير حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان حدّثنا عبد الرحمن بن عيينة البصري حدّثنا علي بن محمّد المدائني حدّثنا مسلمة بن محارب بن سليم بن زياد عن أبيه عن أبي بكرة. وليس هذا الإسناد ممّا يحتج به.

وحديث شق الملك قلبه (ص) قد روي من وجوه متعدّدة مرفوعاً إلى النبي (ص) وليس في شيء منها أن جبريل ختنه إلاّ في هذا الحديث فهو شاذ غريب. قال إبن العديم: وقد جاء في بعض الروايات أن جدّه عبد المطّلب ختنه في اليوم السابع. قال: وهو على ما فيه أشبه بالصواب وأقرب إلى الواقع. ثم ساق من طريق إبن عبد البر حدّثنا أبو عمر أحمد قراءة مني عليه أن محمّد بن عيسى حدثه، قال: حدّثنا يحيى بن أيّوب بن زياد العلاف حدّثنا محمّد بن أبي السري العسقلاني حدّثنا الوليد بن مسلم عن شعيب بن أبي حمزة عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن إبن عبّاس: إن عبد المطّلب ختن النبي (ص) يوم سابعه وجعل له مأدبة وسمّاه محمّداً18. قال يحيى بن أيّوب: ما وجدنا هذا الحديث عند أحمد إلاّ عند إبن أبي السري وهو محمّد بن المتوكّل بن أبي السري، والله أعلم.

الفصل الرابع عشر: في الحِكمة التي من أجلها يعاد بنو آدم غرلاً

لمّا وعد الله سبحانه - وهو صادق الوعد الذي لا يخلف وعده - أنه يعيد الخلق كما بدأهم أوّل مرّة، كان من صدق وعده أن يعيده على الحالة التي بدأ عليها من تمام أعضائه وكمالها.

قال تعالى: «يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أوّل خلق نعيده وعداً علينا إنا كنّا فاعلين» (الأنبياء 12:401). وقال تعالى: «كما بدأكم تعودون» (الأعراف 29:7). وأيضاً فإن الختان إنّما شرّع في الدنيا لتكميل الطهارة والتنزّه من البول، وأهل الجنّة لا يبولون ولا يتغوّطون فليس هناك نجاسة تصيب الغرلة، فيحتاج إلى التحرّز منها، والغلفة لا تمنع لذّة الجماع ولا تعوقه، هذا إن قدر إستمرارهم على تلك الحالة التي بعثوا عليها. وإلاّ فلا يلزم من كونهم يبعثون كذلك أن يستمرّوا على تلك الحالة التي بعثوا عليها فإنهم يبعثون حفاة عراة بهما. ثم يكسون ويمد خلقهم ويزاد فيه بعد ذلك. يزاد في أهل الجنّة وأهل النار. وإلاّ فوقت قيامهم من القبور يكونون على صورتهم التي

1 أحمد: 5/75.

2 النسائي: عمل اليوم والليلة ح 3.

3 أحمد: 4/366، والترمذي: ح 2762.

4 البخاري: ح 5063، مسلم: ح 1401.

5 أحمد: 4/16، 127، الترمذي: ح 2676.

6 أحمد: 4/366، والترمذي: ح 2762.

7 البخاري: ح 6299.

8 البخاري ح 76، مسلم ح 504.

9 البيهقي: 8/324 و326.

10 البيهقي: 8/324 و326.

11 ميزان الإعتدال: 2/65 و3/567.

12 أبو داوود: ح 5271.

13 أبو داوود: ح 5271.

14 أبو داوود: ح 4586، والنسائي: ح 483، وإبن ماجة: ح 3466.

15 مسلم: ح 1377.

16 الاستيعاب: 1/15، الجامع الكبير: 2/461، المعجم الصغير للضبراني: 2/59.

17 المصدر السابق.

18 الاستيعاب: 1/51.

مؤامرة الصمت


ختان الذكور والإناث
عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين

دراسة ووثائق



د. سامي عوض الذيب أبو ساحلية

تقديم الدكتورة نوال السعداوي

http://www.sami-aldeeb.com/

2003


مؤامرة الصمت


ختان الذكور والإناث
عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين

دراسة ووثائق



د. سامي عوض الذيب أبو ساحلية

تقديم الدكتورة نوال السعداوي



نبذة عن المؤلف

سامي عوض الذيب أبو ساحلية، مسيحي من أصل فلسطيني وحامل الجنسيّة السويسريّة. ولد عام 1994 في الزبابدة، فلسطين.

أتم دراسته الجامعيّة في سويسرا حيث حصل على ليسانس ودكتوراه في القانون من جامعة فريبورغ، ودبلوم في العلوم السياسيّة من معهد الدراسات الجامعيّة العليا في جنيف. يعمل في المعهد السويسري للقانون المقارن في لوزان كمستشار قانوني مسئول عن القسم العربي والإسلامي منذ عام 1980. له عدة مؤلفات ومقالات في الشريعة والقانون العربي والسياسة في عدّة لغات. وألقى محاضرات عدّة في جامعات ومراكز عربيّة وغربيّة. ويجد القارئ قائمة منشوراته وبعض مقالاته على موقعه على الانترنيت www.sami-aldeeb.com


من بين كتبه

- أثر الدين على النظام القانوني في مصر: غير المسلمين في بلاد الإسلام، 1997 (بالفرنسيّة).

- التمييز ضد غير اليهود مسيحيّين ومسلمين في إسرائيل، 1992 (بالفرنسيّة).

- المسلمون وحقوق الإنسان: الدين والقانون والسياسة، دراسة ووثائق، 1994 (بالفرنسيّة).

- ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين، 2001 (بالفرنسيّة والإنكليزيّة).

- المقبرة الإسلاميّة في الغرب: النظم اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة، 2002 (بالفرنسيّة).

- المسلمون في الغرب بين الحقوق والواجبات، 2002 (بالفرنسيّة والإنكليزيّة).


الكتاب الذي بين يديك

هذا الكتاب مختصر لكتاب مطول يجده القارئ في موقعي على الانترنيت. وقد أصدرت دار رياض الريس في بيروت عام 2000 الجزء الأول من الكتاب المطول تحت عنوان: ختان الذكور والإناث عند اليهود والمسيحيين والمسلمين: الجدل الديني. كما صدر الكتاب كاملاً، دون الملاحق، باللغة الفرنسيّة والإنكليزيّة.

مؤامرة الصمت

ختان الذكور والإناث
عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين

دراسة ووثائق



د. سامي عوض الذيب أبو ساحلية

تقديم الدكتورة نوال السعداوي




مختصر محتويات الكتاب

يجد القارئ المحتويات كاملة في آخر الكتاب


تقديم الدكتورة نوال السعداوي 11

المقدّمة 17

الجزء الأوّل: تعريف الختان وأهمّيته العدديّة وتوزيعه 21

الفصل الأوّل: تعريف الختان 21

الفصل الثاني: الأهمّية العدديّة والتوزيع الجغرافي 24

الجزء الثاني: الختان والجدل الديني 27

الفصل الأوّل: الختان في الفكر الديني اليهودي 27

الفصل الثاني: الختان في الفكر الديني المسيحي 54

الفصل الثالث: الختان في الفكر الديني الإسلامي 71

الجزء الثالث: الختان والجدل الطبّي 105

الفصل الأول: الآلام الناتجة عن ختان الذكور والإناث 105

الفصل الثاني: الأضرار الصحّية لختان الذكور والإناث 109

الفصل الثالث: المضار الجنسيّة لختان الذكور والإناث 119

الفصل الرابع: الفوائد الصحّية المزعومة لختان الذكور والإناث 131

الفصل الخامس: المعالجة الطبّية لآثار الختان الضارّة 152

الجزء الرابع: الختان والجدل الاجتماعي 157

الفصل الأوّل: الختان من بتر الذات الشاذ إلى التصرّف الجماعي الثقافي 157

الفصل الثاني: الختان وتأثير المحيط 162

الفصل الثالث: الختان والدين 165

الفصل الرابع: الختان وكبح النزوات الجنسيّة والأعداد للزواج 167

الفصل الخامس: الختان والنظام القَبلي والطائفي 171

الفصل السادس: الختان وغريزة التسلط 175

الفصل السابع: الختان والعوامل الاقتصادية 178

الفصل الثامن: الختان والدوافع السياسيّة 183

الفصل التاسع: النتائج النفسيّة والاجتماعية للختان 189

الفصل العاشر: الوسائل التربويّة والنفسيّة للقضاء على الختان 198

الجزء الخامس: الختان والجدل القانوني 205

الفصل الأوّل: منع ختان الذكور عبر التاريخ 205

الفصل الثاني: إدانة المشرّع الدولي لختان الإناث 208

الفصل الثالث: الختان وحقوق الإنسان 219

الفصل الرابع: ختان الذكور والإناث والإباحة الطبّية 226

الفصل الخامس: منع الختان بين المُثُل والإمكانيّات 232

الفصل السادس: الختان واللجوء السياسي 238

خاتمة الكتاب 243

ملاحق 245

كامل محتويات الكتاب 335

تقديم الدكتورة نوال السعداوي

منحني هذا الكتاب لذّة المعرفة. أدركت منذ الطفولة أنها أكثر أهمّية من لذّة الحلوى في العيد أو الفستان الجديد، رغم أنها لم ترد في كتب الله الثلاثة ضمن ملذّات الدنيا والآخرة. كنت أتساءل دائماً لماذا تغيب في جنّة عدن. لم أنبهر كثيراً بالجنّة وما فيها من لبن وعسل وخمر وحور وغلمان. كانت لذّة المعرفة تبدو لي أكثر أهمّية من كل ذلك. منذ تعلمت القراءة انفتح عالم الكلمات أمامي على نحو مبهر. إلاّ أن اللذّة كان يصاحبها الإثم دائماً. ربّما بسبب خطيئة حوّاء (كما شرحها لنا المدرّسون) لأنها أكلت الثمرة المحرّمة. لم يذكر الله اسم الشجرة في القرآن، لكنّه ذكر اسمها في كتابه الأوّل التوراة، وقال إنها شجرة المعرفة. عرفت منذ المدرسة الابتدائية أن التوراة والإنجيل أنزلهما الله نوراً وهدى للناس كما أنزل كتابه الثالث القرآن. اقترن الإيمان بالإثم منذ قرأت الكتب السماويّة. يتزايد الإثم في أعماقي مع تزايد المعرفة، حتى قرّرت في مرحلة المراهقة الأولى أن أكف عن القراءة.

كنت في مدرسة تجمع التلميذات من الأديان الثلاثة المسلمات والقبطيّات واليهوديّات، وكم تصارعنا حول أيها الدين الصحيح، وكم تنافسنا في اصطياد الآيات غير المنطقيّة في الكتاب الذي لا نؤمن به. عانيت كثيراً لأني كنت مسلمة ورثت الإسلام عن أبي الذي قال لي إنني يجب أن أومن بكتب الله الثلاثة. عانيت وحدي وأنا أقرأ هذه الكتب. أتوقّف عند آيات لا يقبلها عقلي. وأسأل أبي وأمي والمدرّسين إلاّ أن أحداَ لم يكن يرد على تساؤلاتي.

لا زلت حتى اليوم وبعد أن تجاوزت الستين عاماً أحاول الإجابة على كثير من الأسئلة الطفوليّة التي دارت في رأسي وأنا في العاشرة من العمر دون أن أجد لها جواباً. إن النشاط الهرموني المتزايد في سن المراهقة الأولى يزيد نشاط الخلايا العقليّة، ويصاحب رغبة الاستطلاع الجنسيّة رغبة استطلاع فكريّة. وفي هذا العمر تزيد الضغوط العائليّة والاجتماعية على المراهقين والمراهقات تحت اسم الحماية أو العفة. وتسعى السلطة في الدولة أو العائلة لمصادرة الكتب. هكذا يصاحب التعفف الجنسي تعفف فكري، ويتم تحريم الأفكار الأخرى بمثل ما يتم تحريم الاختلاط بالجنس أو الأجناس الأخرى.

في بلادنا العربيّة لا أظن أننا تخلصنا من داء مصادرة الكتب التي تفتح عقول الشبان والشابّات على أفكار مختلفة لم ترد للأسلاف من الأجداد أو الأنبياء. منذ أيّام قليلة (خلال شهر أبريل 1999) منعت الجامعة الأمريكيّة بالقاهرة عدداً من الكتب، ومنها سيرتي الذاتيّة المترجمة إلى الإنكليزيّة، رغم أنها نشرت بالعربيّة منذ عامين. وهذا يدلنا على أن الرقابة على الكتب أو على المعرفة لا تزال موجودة في بلادنا، بل إنها تشتد تحت اسم حماية الشباب من الأفكار التي قد تهز إيمانهم الديني! فهل الإيمان قشة يمكن أن يذروها الهواء؟ هل لا بد من غلق النوافذ حتى تظل هذه القشة ملتصقة بقشرة المخ؟ وإن انفتحت نافذة واحدة طارت القشرة ومعها القشة؟!

في العاشرة من عمري في قريتي في مصر كنت ألتهم أي كتاب يقع في يدي، وأقرأ القراطيس التي يلف فيها اللب أو الفول السوداني. كانت صفحات من كتب قديمة يبيعها المفكرون الفقراء بالأقة لأصحاب الدكاكين. تخيّلت وأنا أقرأ هذا الكتاب لو أنه وقع في يدي منذ أربعين عاماً، هل كان يوفر عليَّ السنين الطوال التي أنفقتها في البحث والتنقيب عن الحقيقة؟ التي كانت تتسرّب كالماء من بين أصابعي، ما أن أمسكها حتى تفلت منّي كالسمكة في البحر، وأعود أدراجي إلى الصلاة والتوبة عن الإثم.

هذا الكتاب من الكتب الضروريّة للمكتبة العربيّة. لهذا أود أن يُنشر هذا الكتاب في بلادنا العربيّة، وأن يكون في متناول الشبان والشابّات والتلاميذ والتلميذات في المدارس والجامعات.

أحد الأسلحة في مجال الثقافة العامّة، حيث تحرّم الأغلبيّة الساحقة من الثقافة الحقيقيّة، حيث يفشل نظام التعليم في تدريب الشبان والشابّات على تشغيل عقولهم. تؤدّي الهزيمة العقليّة إلى هزيمة سياسيّة وعسكريّة واقتصاديّة. إن الثقافة غير منفصلة عن السياسة أو الدين أو الحرب، والعقل هو الذي يوجّه اليد التي تمسك السيف أو البندقيّة.

لا أظن أن بلادنا يمكن أن تنهض من كبوتها أو هزائمها المتتالية أمام الغزو الخارجي أو البطش الداخلي دون نهضة عقليّة، دون حرّية فكريّة بحيث يكون الشك هو خادم المعرفة كما يقول مؤلف هذا الكتاب، الحقيقة إذا كانت حقيقة فإنها تقوى أمام كل امتحان.

الشك أوّل الخطوات نحو المعرفة وليس الإيمان. فالإيمان موروث يطمس العقل ويمنعه من التفكير بحرّية. حتى في كليات الطب لم تكن المعرفة واردة، بل التدريب على إجراء عمليّات موروثة عن الآباء والأجداد. أود أن يُدرّس هذا الكتاب للأطبّاء والطبيبات في بلادنا حتى يكفوا عن إجراء عمليّات الختان للذكور والإناث على حد سواء.

يبدأ الدكتور سامي أبو ساحلية كتابه بأنه تألم حين سمع طفلاً يصرخ من شدّة الألم أثناء عمليّة ختان. بقي هذا الصراخ يدوّي في أعماقه رغم أنه هو نفسه لم يتعرّض لعمليّة الختان. فلماذا لا يسمع الأطبّاء هذا الصراخ أثناء إجرائهم هذه العمليّة؟ أليس للأطبّاء آذان وقلوب تتألم مثل البشر؟ أليس للآباء والأمّهات الذين يسمعون صراخ أطفالهم آذان وقلوب؟!

الجهل يطمس القلوب والآذان فلا تسمع ولا تحس. الجهل يقلب الأمور رأساً على عقب فيصبح الألم فرحاً وسفك الدم مبعث السرور والبهجة. ألم يبتهج إله موسى في التوراة حين رأى الدم يسيل من ابنه حين أمسكت زوجته صفورة حجر صوّان وقطعت غرلته؟! إذا كان الإله (الذي هو المثل الأعلى للبشر) يبتهج لمنظر الدم فماذا يفعل البشر؟!

الله هو العدل كما عَرفت من جدّتي الفلاّحة الفقيرة: «ربّنا هو العدل عرفوه بالعقل» هي عبارتها. رسخت في ذهني منذ السادسة من عمري، مع الألم الذي أشعر به إثر عمليّة الختان، وصراخ أختي لا يزال في أذني رغم مرور ستين عاماً. وقد توالى الصراخ في بيتنا إثر ختان تسعة من الأطفال الذكور والإناث. آلمني صراخ أخي الصغير بمثل ما آلمني صراخ أختي الصغرى، وبعد كل صرخة تتزايد شكوكي في عدالة الله، ويتزايد معها الإحساس بالإثم.

فرحت بهذا الكتاب، لأنه قد يحرّر الناس من الإحساس بالإثم الدفين منذ طفولتهم، ولأنه قد يلعب دوراً كبيراً في إقناع الكثيرين بالامتناع عن ختان أطفالهم الذكور والإناث. لقد بذل المؤلف الدكتور أبو ساحلية جهداً كبيراً في المقارنة بين الأديان السماويّة الثلاثة إزاء موقفها من الختان، ومتابعة الآراء المعارضة والمؤيّدة بروح علميّة وإنسانيّة. وهناك نقص كبير في الدراسات المقارنة بين الأديان في معظم الجامعات في العالم. وقد اكتشفت أن الأقسام التي تدرس الدين في الجامعات الأمريكيّة والأوروبيّة لا تهتم بالدراسات المقارنة بين الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة، بل إنها تدرّس الإسلام فقط لمن يختص في الإسلام، ويصبح أستاذاً في الدين الإسلامي، دون أن يعرف التشابه أو الاختلاف بين الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة. قابلت كثيراً من الأساتذة الأمريكيّين والأوروبيين الذين تخصّصوا في الإسلام، والذين يعتقدون أن حجاب المرأة وختانها يرتبط بالإسلام فقط وليس له وجود في المسيحيّة واليهوديّة.

هذا الكتاب يكشف عن هذه الأفكار الخاطئة والشائعة في الغرب. فإن عمليّات الختان للذكور كانت تمارس قبل ظهور الأديان السماويّة. وقد مورست في ظل هذه الأديان الثلاثة. ويتميّز القرآن عن التوراة في أنه صمت تماماً عن ختان الذكور، كما أن القرآن لم يذكر شيئاً عن ختان الإناث. فلماذا هذه الشائعات السياسيّة الغربيّة عن الإسلام وحده دون الأديان الأخرى؟ أذكر أنني في إحدى المحاضرات في بداية الثمانينات في مؤتمر بمونتريال بكندا، تعرّضت للأديان الثلاثة فيما يخص الحجاب وختان الذكور والإناث. وتقبّل الحاضرون من النساء والرجال كلامي بفهم كبير، خاصّة وأنني قرأت بعض الآيات من التوراة والإنجيل والقرآن. إلاّ أن الغضب الشديد استولى على بعض النساء اليهوديّات الأمريكيات والإسرائيليّات على حد سواء. أصابهن هستيريا الغضب ولجأن إلى الصراخ والشتائم والاتهامات أقلها الاتهام بالعداء للساميّة. إلاّ أنني واجهت هذا الغضب بقوّة المنطق، لأن الغضب كثيراً ما يكون غطاءاً للزيف وبطلان المنطق. وقلت إننا العرب من أهل سام وليس اليهود فقط. وأن العداء للساميّة هو عداء للعرب أيضاً. لذلك لا يمكن تخويفنا بهذه الحجّة الواهية (العداء للساميّة). ثم أثبت بحقائق التاريخ أن اليهوديّة والمسيحيّة فرضتا الحجاب على النساء. ولا يختلف زي الراهبات في الكنائس عن زي النساء المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب. وفي يومنا هذا لا يمكن لامرأة مسيحيّة (وإن كانت زوجة الرئيس الأمريكي) أن تقف أمام البابا في الفاتيكان دون أن تغطي رأسها بحجاب. ثم قرأت بعض ما يكتبه التيّار اليهودي الأصولي في إسرائيل عن عزل النساء من الحياة العامّة ممّا هو أشد قهراً للنساء ممّا يكتبه التيّار الإسلامي الأصولي في مصر أو الباكستان.

تأتي أهمّية هذا الكتاب من الدراسة المقارنة بين الأديان الثلاثة. وهي تكشف عن الصراعات السياسيّة والاقتصادية بين الفرق المختلفة تحت اسم الله.

يقول المؤلف عن العهد القديم بين الله والنبي إبراهيم، إنه «تسييس عمليّة جراحيّة». وهذا صحيح. وإلاّ فلماذا وعد الله شعبه المختار بأرض كنعان، وما علاقة الاستيلاء على أرض الغير بختان الذكور؟

في مقال لي بمجلة روز اليوسف في 21/12/1998 تحت عنوان: «أوقفوا ختان الذكور»، تساءلت عن سر العلاقة بين الاستيلاء بالقوّة عن أرض فلسطين وبين قطع غرلة الأطفال الذكور؟! الغريب أن غضب بعض الرجال المسلمين عليّ لم يكن أقل من غضب النساء اليهوديّات في مؤتمر مونتريال منذ خمسة عشر عاماً. ممّا يدل على أن الإسرائيليّات قد تسرّبت إلى الإسلام فيما يخص ختان الذكور، كما وضّح لنا هذا الكتاب.

لقد تم استخدام القوّة لإخفاء الحق منذ نشوء العبوديّة أو النظام الطبقي الأبوي في التاريخ البشري، ولإخفاء السلطة السياسيّة تحت غطاء السلطة الدينيّة. كان الإله الحاكم يجلس على عرش الأرض والسماء ويقدّم له العبيد القرابين من الفراخ والحمام واللحم البشري فيأكل ويشرب ويغسل قدميه ويطالب عبيده بأن يبنوا له بيتاً يعيش فيه يسمّونه المعبد المقدّس.

رغم مرور آلاف السنين منذ نشوء النظام الطبقي الأبوي لم تنفصل السلطة السياسيّة عن السلطة الدينيّة حتى يومنا، في الشرق والغرب والشمال والجنوب. إن الرأسماليّة العالميّة أو النظام الطبقي الأبوي الدولي لا يمكن أن يستمر في الوجود دون الارتكاز على قوّة غامضة غير مرئيّة، يستطيع باسمها أن يخدع الناس ويقهرهم ويحتل أراضيهم ويقطع في أجسادهم وعقولهم كما يشاء تحت اسم المقدّس.

يكشف هذا الكتاب عن دور السياسة في موضوع الختان. حدثت عام 1871 قفزة إلى الأمام بسبب ما كان ينتج عن الختان من وفيّات ونزيف وقرّر المجمع اليهودي أن ختان الذكور ليس واجباً مفروضاً على اليهود. إلاّ أن الردّة السياسيّة والثقافيّة حدثت مع تزايد قوّة الاستعمار وبعد إنشاء دولة إسرائيل. تضاعفت القوى السياسيّة والدينيّة المحافظة، إلى أن جاء قرار الجمعيّة العموميّة لحاخامات اليهود عام 1979 بفرض ختان الذكور.

يوضّح الكتاب أن الختان عمليّة عبوديّة أو علامة العبيد كما يقول المؤلف. هناك آية في الدين اليهودي تؤكد ذلك، وهي: (يختن المولود في بيتك والمشترى بفضّتك) كما يوضّح الصراع الذي دار على الدوام حتى عصرنا هذا بين الذين يتمسّكون بحرفيّة كتاب الله (من أجل مصالح مادّية في الدنيا) وبين الذين ينشدون جوهر الدين الصحيح وهو العدل واحترام كرامة الإنسان وجسده. كما يوضّح التشابه بين عمليّات الختان وعمليّات اخصاء العبيد، حتى يتفرغوا للخدمة في البيوت أو للغناء في الملاهي مثل النساء.

لا تختلف عمليّات الختان عن عمليّات القتل الجماعي في حروب الاستعمار القديم والجديد، ولا تكف الآلة العسكريّة الرأسماليّة الاستعمارية عن قتل الآلاف والملايين من الشعوب البريئة حتى يومنا هذا، دون رحمة أو شفقة. بل إنهم يقتلون تحت اسم الله أو العدل أو الحرّية أو الديموقراطيّة أو السلام، كما يختنون الملايين ويقطعون في أجسامهم باسم الله.

الدول، وإن أعلنت أنها علمانيّة (تفصل بين الدين والسياسة)، إلاّ أنها لا تستطيع أبداً التخلي عن الدين، لأنها لا تستطيع تحمّل مسؤوليّة القتل أو الختان، ولا بد لها من إلقاء المسؤوليّة على الله. ويكشف الكتاب عن ختان الذكور. هو بقايا الضحايا الدمويّة في اليهوديّة القديمة. ولا بد من إسالة نقطة دم وإن أصبح الختان رمزياً فقط (دون قطع الغرلة)، لأن الدم علامة العبوديّة (دم العهد) وتصاحب عمليّة الختان صلوات رجال الدين لإدخال الله رمزياً في العمليّة، وإذا تم بعيداً عن رجال الدين لا يعترفون به، ولا بد من وجودهم ليكون ختاناً شرعيّاً.

ألا يشبه ذلك عقد الزواج؟ إن الزواج لا يكون شرعيّاً إلاّ بحضور المأذون أو رجل الدين. وهذا يؤكد سلطة رجال الدين الاجتماعية، رغم اضمحلال قوّتهم في المجال السياسي والاقتصادي والعسكري. لقد أصبحت جميع القوانين في بلادنا مدنيّة ما عدا قانون الزواج والطلاق فهو لا يزال قانوناً دينيّاً يسيطر عليه رجال الدين، يمسكونه بالمخالب والأنياب كأنما هو آخر قلاعهم أو معاقلهم، ولأن قانون الزواج مثل الختان يمس حياة الشرائح الأضعف في المجتمع، وهم الأطفال والنساء.

ويكشف الكتاب كيف يتنصّل كثير من اليهود اليوم من عمليّات ختان الذكور، يحاولون إلصاقها بالمصريّين القدماء، كما حاولوا إلصاق عمليّات ختان الإناث بالعرب والإسلام لأسباب سياسيّة، ولإثبات أن العرب أمّة بربريّة متخلفة تقطع بظور النساء.

دهشت عندما سمعت وزير الصحّة في مصر يردّد أن ختان الإناث عادة أفريقيّة. وسمعت بعض الأطبّاء يردّدون هذه العبارة ذاتها، في محاولة لإبعاد العار عن مصر وإلصاقه بالأفارقة السود. لكن هذا الكتاب يوضّح هذه النظرة الخاطئة، ويشرح كيف انتشرت عمليّات ختان الذكور والإناث في المجتمعات المختلفة منها: اليهود والمسيحيّين والمسلمين والسود والبيض في الشرق والغرب.

إن تقدّم البشريّة وتخلصها من هذه العادات العبوديّة يرتبطان بالنظم السياسيّة والاقتصادية. أمّا الأديان فهي خادمة لهذه النظم، ويمكن للدين أن يتطوّر ويتقدّم مع التقدّم السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للنساء والرجال والشاب والأطفال.

يتخفى الحكام في عصرنا هذا تحت اسم الله كما يتخفى الكهنة في الأزمنة القديمة. تذكرت وأنا أقرأ في هذا الكتاب عن بطرس وكيف برّر قبوله لدعوة قرنيليوس برؤيا رآها قبل أن يصله المبعوث بالدعوة، وأصبح ذهاب بطرس إلى قرنيليوس (الأغلف. النجس. العدو) ليس خيانة لعهد الله بل طاعة للروح القدس التي جاءته في الرؤيا. تذكرت كيف برّر الرئيس المصري أنور السادات (توفى عام 1981) ذهابه إلى إسرائيل عام 1979 بأنه رأى الله في المنام وأن الله قال له اذهب إلى إسرائيل. هكذا أصبحت رحلة السادات إلى تل أبيب شرعيّة.

كذلك وجدت تشابهاً كبيراً بين أقوال «إتيوس» الطبيب في البلاط البيزنطي (في القرن السادس الميلادي) بأقوال الشيخ متولي الشعراوي (توفى عام 1998) في مصر عام 1977. كلاهما كان يؤيّد ختان الإناث لأن «بظر المرأة يحتك بملابسها ويثير شهوتها».

ومن أطرف الحكايات في هذا الكتاب قصّة البعثة الطبّية الكاثوليكيّة إلى مصر في القرن الثامن عشر التي عادت إلى روما وفي جعبتها تقرير عن بظر المرأة المصريّة، فحواه أن هذا البظر أكبر من بظور النساء في العالم أجمع ولا بد من قطعه لأنه يمنع ما لأجله شرّع الزواج.

لعّل أهم ما في الكتاب هو النظرة العلميّة المحايدة التي لا تتعصّب لدين دون الدين الآخر، وتعرض الآراء على نحو عادل. يترك للقراء والقارئات أن يحكموا بأنفسهم على الأمور. رأينا كيف أن الأديان تتشابه خاصّة في نظرتها إلى الأعضاء الجنسيّة وفرض الطاعة على العبيد والجواري، ونجاسة المرأة التي تظهر في التوراة أكثر من أي كتاب آخر، وكيف مُنعت المرأة في المسيحيّة من الترانيم الروحيّة بالكنيسة بمثل ما منعت في الإسلام من الأذان للصلاة. وهناك كثير من المشايخ في الإسلام في يومنا هذا يردّدون عبارة بولس الشهيرة: «ولتصمت النساء في الجماعات شأنها في جميع كنائس القدّيسين فإنه لا يؤذن لهن بالتكلم». أصبح صوت المرأة عورة عند الكثيرين من المسيحيّين والمسلمين، بمثل ما أصبح شعر المرأة عورة منذ أن جاءت هذه العبارة الشهيرة في التلمود: «شعر المرأة العاري مثل جسدها العاري». وتشمل صلاة اليهودي كل يوم هذه العبارة الشهيرة: «أشكرك يا رب لأنك لم تخلقني امرأة».

ومن أهم الأجزاء في الكتاب تلك التي تكشف عن صمت الأمم المتحدة عن ختان الذكور وعدم تحريمه كما حرّمت ختان الإناث، بسبب الخوف من اللوبي اليهودي السياسي في أمريكا وأوروبا.

أتفق تماماً مع الدكتور سامي أبو ساحلية مؤلف هذا الكتاب في أن الحملة ضد الختان يجب أن تشمل الذكور والإناث ولا تقتصر فقط على الإناث، ذلك أن الجريمة واحدة وإن اختلفت درجتها أو شكلها.

المقدّمة

من خلف جدار دار الجيران يرتفع صريخ أطفال يتألمون ممزوج بزغاريد النساء مع أغاني فرح ما زلت أحفظ منها جملة تقول: «زَينُه يا شلبي وسلمُه لامُه».

كان الجيران يحتفلون بختان أطفالهم وبهذه المناسبة اجتمعوا مع الأقارب في ساحة البيت وفي الشارع المجاور ووزّعوا الحلوى على المارة. وكانت عمليّة الختان تتم داخل البيت، يقوم بها «الشلبي». ولصغر سني حين ذاك ولكوني من عائلة مسيحيّة لا تمارس الختان لم أستوعب ما هو الختان ولماذا يصيح الأطفال من الألم بينما الجمع من حولهم يفرحون ويمرحون. لقد بقي هذا الحدث الغريب المتناقض عالقاً بذاكرتي بعد أكثر من أربعين عاماً من انقضائه ورغم المسافة التي تفصلني عن مكان حدوثه

في عام 1993، أعطيت أول محاضرة عن ختان الذكور والإناث بناء على طلب المنظمة الليبية (شمال جنوب 21) ضمن مؤتمر عن حقوق الطفل عقدته في جامعة جنيف يومي 30 و31 يناير عام 1993. وما إن انتهيت من إلقاء المحاضرة حتى انهالت علي الانتقادات من منظمي المؤتمر، وكان بينهم مسلمون وصفوني بالإلحاد. أمّا الحاضرون فقد صفقوا لي واستغربوا الاتهام. فدافعت عن نفسي موضّحاً أن ما جاء في محاضرتي ليس تهجّماً على الديانات بل دفاعاً عن الأطفال الأبرياء.

في 7 سبتمبر 1994، عندما كانت تنعقد في القاهرة أعمال المؤتمر العالمي للسكان والتنمية، عرضت شبكة التلفزيون الأمريكيّة «سي إن إن» فيلماً وثائقياً عن ختان طفلة مصريّة اسمها نجلا في العاشرة من عمرها في العاصمة المصريّة بيد حلاّق. وكانت الطفلة تصرخ من الألم. فاهتزت على أثر هذا الفيلم كل الأوساط المصريّة، الرسميّة والشعبيّة. هناك من اعتبر الفيلم إهانة لمصر وللإسلام وهناك من اغتنم هذا الفيلم للتصدّي لعادة ختان البنات في مصر. وتدخّل رجال الدين الإسلامي فأعلنوا رأيهم في هذا الخصوص، فتعارضت الآراء بين مفتي الجمهوريّة وشيخ الأزهر، ولكل منهما سنده وحجّته وأتباعه. وهذا التباين جعلني أتساءل ما هي الأسباب التي من أجلها عرضت الشبكة المذكورة فلمها؟ هل كان ذلك دفاعاً عن حقوق الإنسان أم تشهيراً بمصر وبالإسلام؟ وإن كان ذلك دفاعاً عن حقوق الإنسان، فلماذا تسكت هذه الشبكة عمّا يجري في الولايات المتحدة حيث يختن يومياً ما يناهز 3300 طفل أمريكي في المستشفيات الأمريكيّة يصيحون من الألم؟ ولماذا ينتقد الغرب ختان البنات ويُصدر ضد فاعليه الأحكام القضائيّة القاسيّة بينما ختان الصبيان يمر مرور الكرام دون سؤال أو استفسار؟ وقد توصّلت إلى أن أحد الأسباب، إن لم يكن أهمّها، هو الخوف من اليهود الذين يمارسون ختان الذكور.

في شهر يوليو 2002 زرت جامعة بريسبان في أستراليا في يوليو 2002 واجتمعت مع رئيس قسم الدراسات الخاصّة بأهل أستراليا الأصليين، ميكائيل ويليمز، وسألته عن الختان عند الأستراليين الأصليين وكان رده بأنه لا يحق له التكلم في هذا الموضوع لأنه يخاف أن يصاب بالمرض. وعندما سألته عن معنى الحرّية العلميّة إذا كان يرفض الإجابة فرد بأن القانون الديني يعلو على القانون العلمي. وفي ردّه على سؤال حول ختان الإناث قال لي بأنه لا يحق للرجال التكلم عن مواضيع النساء واقترح علي مناقشة الأمر مع نائبته الأستاذة جاكي هيجنز. وقد أرسلت رسالة إليكترونية لها مع بعض الأسئلة عن ختان الذكور والإناث فردّت عليها جميعاً بجملة واحدة تقول فيها بأنها تأسف لعدم الإجابة على أسئلتي لأنها لا تملك إذناً بالبوح بما تعرف.

في 28 و 29 أكتوبر 2002 قمت بإلقاء محاضرتين عن ختان الذكور والإناث في باريس. وفي اليوم الأول انسحبت ثلاث يهوديات من القاعة احتجاجاً على عرضي ممارسة الختان في الطائفة اليهودية. وفي اليوم الثاني حضرت مع رجلين نبهاني بأنهما جاءا لمراقبتي.

في كل مكان من العالم هناك قانون الصمت الذي يخيم على ممارسات ختان الذكور والإناث التي يروح ضحيتها سنوياً ما لا يقل عن 13 مليون صبي ومليوني صبية. وما زلت منذ عام 1993 أحاول كسر هذا القانون من خلال كتاباتي ومحاضراتي ومداخلاتي في الراديو والتلفزيون. وها أنا اليوم أقدم هذا الكتاب لتأليب الرأي العام ضد هذه الممارسات البدائية والهمجية.

وبعد شكري للمولى على فضله، أود أن أشكر كل من شجّعني لكتابة هذه الدراسة. كما أشكر كل من قام بمراجعتها وأبدى ملاحظاته على الشكل والمحتوى. ولكني وحدي الذي أتحمّل تبعة ما يحتويه هذا الكتاب من آراء أو أغلاط.

هذا أرجو القارئ الكتابة لي على عنواني التالي لإبداء آرائه وملاحظاته البنّاءة:

Dr. Sami Aldeeb

Ochettaz 17

1025 St-Sulpice, Switzerland

عنواني الإلكتروني saldeeb@bluewin.ch

تنبيه

ارتكزنا في كتابنا هذا على «الكتاب المقدّس»، الطبعة الثالثة للترجمة العربيّة الصادرة عن دار المشرق في بيروت عام 1986. وإذا جاء نص من هذه الكتب المقدّسة ضمن فقرة نقلناها عن مؤلف بالعربيّة بترجمة غير التي بين أيدينا أو مرقمة بغير أرقامنا الحاليّة، استبدلنا تلك الترجمة والأرقام بالترجمة والأرقام الحاليّة. وقد وضعنا أرقام الآيات في بدايتها بين قوسين (...) لتسهيل عمليّة الرجوع لهذه النصوص. وعند ترك آية داخل النص لا علاقة لها بموضوعنا نشير إلى ذلك بعلامة [...]. كما أننا نستعمل نفس الإشارة عندما نضيف كلمة لتوضيح النص.

حتى لا نثقل على القارئ قرّرنا حذف جميع هوامش ومراجع الكتاب إلا ما جاء في داخل النص ونحيل القارئ للكتاب العربي المطول على الانترنيت لمن تهمه تلك الهوامش والمراجع. هذا وقد أشرنا إلى تاريخ وفاة المؤلفين، خاصّة القدامى منهم، بعد ذكر اسمهم لأوّل مرّة. والتواريخ المذكورة هنا كما في الكتاب هي حسب التقويم الميلادي (م = بعد المسيح؛ ق.م = قَبل المسيح). وقد أخذنا بالاختصارات الآتية فيما يخص أسفار الكتب المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة:

الكتب المقدّسة اليهوديّة

التكوين: سفر التكوين

الخروج: سفر الخروج

الأحبار: سفر الأحبار

العدد: سفر العدد

تثنية: سفر تثنية الإشتراع

يشوع: سفر يشوع

القضاة: سفر القضاة

1 صموئيل: سفر صموئيل الأوّل

2 صموئيل: سفر صموئيل الثاني

1 ملوك: سفر الملوك الأوّل

2 ملوك: سفر الملوك الثاني

عزرا: سفر عزرا

أستير: سفر أستير

1 المكابيين: سفر المكابيين الأوّل

2 المكابيين: سفر المكابيين الثاني

المزامير: سفر المزامير

الأمثال: سفر الأمثال

أشعيا: سفر أشعيا

أرميا: سفر أرميا

حزقيال: سفر حزقيال

ملاخي: سفر ملاخي


الكتب المقدّسة المسيحيّة

متى: الإنجيل كما رواه متى

مرقس: الإنجيل كما رواه مرقس

لوقا: الإنجيل كما رواه لوقا

يوحنّا: الإنجيل كما رواه يوحنّا

أعمال: سفر أعمال الرسل

رومية: رسالة بولس إلى أهل رومية

1 قورنتس: رسالة بولس الأولى إلى أهل قورنتس

2 قورنتس: رسالة بولس الثانية إلى أهل قورنتس

غلاطية: رسالة بولس إلى أهل غلاطية

فيليبي: رسالة بولس إلى أهل فيليبي

قولسي: رسالة بولس إلى أهل قولسي

طيطوس: رسالة بولس إلى طيطوس

الجزء الأوّل
تعريف الختان وأهمّيته العدديّة وتوزيعه

الفصل الأوّل
تعريف الختان

1) الختان أحد أساليب التصرّف بالجسد

منذ قديم العصور حتى يومنا هذا، حاول ويحاول الإنسان التصرّف بأعضاء جسده وجسد غيره، من أعلى رأسه حتى أصابع رجليه مروراً بأعضائه الجنسيّة، مدّاً أو ضغطاً أو وشماً أو كيّاً أو شقّاً أو ثقباً أو بتراً. ولم يستطع تقدم المجتمع التخلص من هذه التصرفات التي قد تصيب الفقير والغني. ومن بين الحالات المشهورة الأميرة «ديانا» (توفت عام 1997). ففي إحدى مناقشاتها الحادّة مع الأمير «شارلز» التقطت سكين جيب وجرّحت صدرها وفخذيها.

وقد حظيت الأعضاء الجنسيّة بنصيب كبير من نكد الإنسان على نفسه. فقد مثل بها كيفما شاء خصياً أو جبّاً أو شقّاً أو ثقباً. وفي كتابنا هذا سوف نتوقّف عند نوع واحد من أنواع التعدّي على الأعضاء الجنسيّة وهو ختان الذكور والإناث الذي يعتبر من ظواهر المساس بسلامة الجسد الأكثر غموضاً والأوسع انتشاراً. وكان من ضحايا هذه الظاهرة أبو الأنبياء إبراهيم الذي ختن نفسه عندما كان عمره 99 سنة حسب التوراة، أو 80 أو 120 سنة حسب المصادر الإسلامية. واتباعاً لمثاله ملايين الأطفال ختنوا وما زالوا يختنون.

2) الكلمة ومدلولها الاجتماعي والسياسي

أصل الختان عند اليهود والمسيحيّين والمسلمين هو التوراة. ويستعمل اليهود في العبريّة كلمة «ميلا» التي تعني القطع. وهذه الكلمة تستعمل ضمن عبارة «بريت ميلا» أي «عهد القطع» التي تُذَكرنا بالعبارة العربيّة «قطع عهداً». وهذه العبارة كما سنرى لاحقاً إشارة للفصل السابع عشر من سفر التكوين الذي يَدَّعِي أن الله قطع عهداً لإبراهيم بأن يعطيه ونسله الأرض الموعودة، أي «أرض كنعان». ومقابل ذلك العهد، أمر الله إبراهيم بأن يقطع غلفته وغلفة كل ذكر من نسله وعبيده. هناك إذاً تلاعب بالكلمات وتسييس لعمليّة جراحيّة. وتستعمل التوراة أيضاً كلمة «تبر» (الخروج 4:25)، ونفس الكلمة في العربيّة تعني هلك أو أهلك، وتُذَكرنا بكلمة «بتر» مع قلب الأحرف التي تعني قطع. والجزء الذي يقطع يسمّى في العبريّة «غرلة». وغير المختون يسمّى بالعبريّة «أغرل». ولا يوجد في التوراة ذكر لختان الإناث.

يستعمل علماء اللغة العربيّة كلمات عدّة للإشارة إلى الختان مثل الخفض والخفاض والإعذار. والعامّة هي كلمة ختان أو طهور أو طهار أو طهارة للذكر والأنثى. وهذه الكلمة الأخيرة تبيّن أن الختان في فكر الناس يُطهِّر من تُمارَس عليه هذه العادة. والقطعة التي تقطع عند الذكر تسمّى «الغرلة» كما في العبريّة، أو «الغلفة» أو «القلفة». وغير المختون يسمّى «أغرل» أو «أغلف» أو «أقلف».

وكلمة «الختان» التي تشير إلى عمليّة القطع لها معان ذات صلة بالزواج. يقول ابن منظور (توفى عام 1131): «الختن أبو امرأة الرجل وأخو امرأته وكل من كان من قِبَل امرأته، والجمع أختان، والأنثى ختنة. وخاتن الرجلُ الرجلَ إذا تزوّج إليه. وفي الحديث: علي ختن رسول الله (ص) أي زوج ابنته. والاسم الختونة [...] والختن: زوج فتاة القوم، ومن كان من قِبَله من رجل أو امرأة فهم كلهم أختان لأهل المرأة. وأم المرأة وأبوها: ختنان للزوج». وسوف نرى لاحقاً كيف أن الختان كان يسبق الزواج وشرطاً له في بعض المجتمعات. وقد يكون لكلمة «ختن» صلة بكلمة «ختم» مع انقلاب الميم نوناً كما هو معرف في اللغات الساميّة. فيكون معناها وضع علامة للتعرّف على العبد الآبق.

وفي اللغات الأوروبيّة يمكن استعمال كلمة واحدة للدلالة على ختان الذكور والإناث وهي بالإنكليزيّة circumcision. وهذه الكلمة من أصل لاتيني وتعني «القطع دائرياً». ولكن بعض الكتاب يستعمل هذه الكلمة فقط لختان الذكور. وأمّا ختان الإناث فإنهم يستعملون لها كلمة excision وهي كلمة أيضاً من أصل لاتيني وتعني «استئصال».

ومنذ عام 1990 قررت منظمة الصحّة العالميّة استخدام تعبير «بتر الأعضاء الجنسيّة للإناث» والاحتفاظ بكلمة الختان فقط للعملية التي تتم على الذكور والهدف من ذلك تفادي الخلط بين الختانين. فهذا الخلط يعتبره اليهود إهانة لهم. ففي نظرهم ختان الذكور كما تأمر به التوراة جزء هام جدّاً من اعتقادهم الديني، ولا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنته بختان الإناث. وقد أخذ معارضو ختان الذكور مصطلح منظمة الصحّة العالميّة وحوّروه لصالحهم فسمّوا ختان الذكور «البتر الجنسي للذكور».

وسوف نستعمل في كتابنا هذا مصطلح «الختان» لكل من ختان الذكور وختان الإناث. فهو المصطلح الأكثر شيوعاً عند الفقهاء المسلمين وفي اللغة العاميّة. وهذا المصطلح «الختان» يعني في كل الأحوال بتر جزء من العضو التناسلي للذكر أو الأنثى.

3) أنواع عمليّة ختان الذكور

يمكن تصنيف أنواع ختان الذكور كما يلي:

الدرجة الأولى: يتم في هذه العمليّة بتر غلفة القضيب، جزئيّاً أو كلياً. وقد تصل نسبة الجلدة المقطوعة من ربع إلى أكثر من نصف جلد الذكر حسب مهارة الخاتن وعادات الختان.

الدرجة الثانية: يتم في هذه العمليّة بتر غلفة القضيب وسلخ بطانتها وهي تجرى عند اليهود. ويطلق على المرحلة الأولى اسم «ميلا» وعلى المرحلة الثانية اسم «بيريا». ويتبع هذه المرحلة، حسب التعاليم اليهوديّة التقليديّة، مص الخاتن قضيب الطفل (بالعبريّة: مزيزا).

الدرجة الثالثة: يتم في هذه العمليّة سلخ جلد الذكر حتى كيس الصفن أو حتى الساق. وتتم هذه العملية عند قبائل «النمشي» شمال الكمرون وعند بعض قبائل الجزيرة العربية. وقد تعرّضت لهذا النوع فتوى سعوديّة لابن باز (توفى عام 1999) اعتبرته من تشريع الشيطان.

الدرجة الرابعة: شق مجرى البول الخلفي لجعله يشبه فرج المرأة، كما يتم عند القبائل البدائيّة في أستراليا.

أسلوب الختان عند بعض القبائل البدائيّة في أستراليا

المصدرBryk, Circumcision in man and woman, 1934, p. 129


سوف نقتصر في كتابنا على الدرجتين الأوليتين من الختان لأنهما الأوسع انتشاراً بين اليهود والمسيحيين والمسلمين.

والختان قد يتم بوسائل بدائيّة. وسوف نرى أن صفورة، زوجة موسى، ختنت أبنها بصوّان، وكذلك ختن يشوع اليهود بصوّان. ويذكر حديث منسوب للنبي محمد (توفى عام 632) أن إبراهيم قد ختن نفسه «بقدوم»، أي بآلة النجارة. وفي الروايات اليهوديّة، تم ختان إبراهيم بسيفه أو بقرصة عقرب. وقد تفنّن المخترعون في تصميم آلات عدّة لإجراء عمليّة الختان.

4) أنواع عمليّة ختان الإناث

يمكن تصنيف أنواع ختان الإناث كما يلي:

الدرجة الأولى: في هذه العلميّة يتم إزالة غلفة البظر أو جزء منها.

الدرجة الثانية: تشمل قطع البظر وغلفته، مع الشفرين الصغيرين أو جزء منهما.

الدرجة الثالثة: في هذه العمليّة يتم قطع البظر وغلفته والشفرين الصغيرين. ثم يلي ذلك شق الشفرين الكبيرين ويتم إخاطتهما معاً أو ابقائهما متماسين عن طريق ربط الرجلين معاً حتى يلتئما مكوّنين غطاء من الجلد يغطي فتحة البول والجانب الأكبر من المهبل. وتترك فتحة صغيرة في حجم رأس عود الثقاب أو طرف إصبع اليد الصغير لتسمح بنزول البول ودم الحيض. ويطلق على هذه العملية في مصر اسم «الطهارة السودانيّة»، وفي السودان، اسم «الطهارة الفرعونيّة» أو «الخفاض الفرعوني». وللجماع يتم عادة فتح المرأة بخنجر. كما أنه يتم توسيع الفتحة للولادة. وقد يعاد إخاطتها بعد الولادة أو في حالة سفر الزوج أو الطلاق.

الدرجة الرابعة: تضم أصناف مختلفة من التشويه الجنسي مثل شق الجدار الخلفي للمهبل؛ كي البظر والأنسجة المحيطة به بواسطة أداة صلبة محماة؛ وخز البظر أو الشفرين الصغيرين أو شقّهما؛ كحت بطانة المهبل أو عمل شقوق بها؛ مط البظر أو الشفرين الصغيرين؛ وضع مواد أو أعشاب كاوية في المهبل؛ فض بكارة العروس ليلة الزفاف بإصبع داية تطيل ظفرها من أجل هذه المناسبة. وهذه العادة معروفة خاصّة في الريف المصري.

هناك عدّة وسائل لإجراء ختان الإناث، منها البدائيّة ومنها المتقدّمة. وقد ابتكر طبيب أمريكي يهودي اسمه «راثمان» عام 1959 آلة مثل الكمّاشة لبتر غلفة بظر المرأة.

الفصل الثاني
الأهمّية العدديّة والتوزيع الجغرافي

1) إحصائيّات ختان الذكور

لا توجد إحصائيّات أكيدة تبيّن مدى انتشار ختان الذكور. ويشير مصدر أنه يتم في العالم ختان قرابة 13.300.000 طفل سنوياً، أي بمعدّل 25 طفل كل دقيقة. ويشير مصدر آخر أن نسبة المختونين من الذكور في العالم تبلغ 23%، أي بمجموع 650 مليون ذكر.

يُمارس ختان الذكور عادة في أيّامنا على جميع ذكور اليهود والمسلمين مع بعض الاستثناءات القليلة. وهناك عدد من المسيحيّين الذين يختنون أطفالهم. فالمسيحيون في مصر والسودان والحبشة مثلاً يمارسون ختان الذكور بصورة تكاد تكون شاملة، على خلاف اخوتهم المسيحيّين في دول المشرق العربي حيث ختان الذكور نادر. وهناك مؤشرات تفيد بأن ختان الذكور في تزايد في تلك الدول. وقد يكون السبب هو انتشار الثقافة الطبّية الأمريكيّة وزيادة عدد الولادات في المستشفيات حيث يمارس الأطبّاء سلطتهم في إقناع الأهل لإجراء تلك العمليّة.

وهناك ظاهرة غريبة وهي انتشار ختان الذكور في الدول الغربيّة الناطقة بالإنكليزيّة: إنكلترا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة. وهناك صعوبة كبيرة للحصول على إحصائيّات في هذا الخصوص ولكن تقدر نسبة الختان قبل الحرب العالمية الثانية في إنكلترا بـ 50% وقد هبطت هذه النسبة إلى قرابة الصفر بعد تعديل نظام التأمين الاجتماعي. وكانت نسبة الختان في الولايات المتحدة 85% عام 1979 ولكنها انخفضت في العقدين الأخيرين حتى أصبحت توازي اليوم 60% بسبب تزايد معارضي الختان. ولكن هذه النسبة تصل إلى 95% في بعض المستشفيات الأمريكيّة. واليوم نسبة الختان في أستراليا تقدّر بـ 10% وفي كندا بـ 25%. أمّا في الدول الغربيّة الأوروبيّة الأخرى، فنسبة ختان الذكور ضئيلة قد لا تزيد عن 2%. وهنا تنقصنا الإحصائيّات الموثوقة. ويشار هنا إلى أن نسبة الختان في كوريا الجنوبية تصل إلى 90% بسبب تأثير الجيش الأمريكي.

2) إحصائيّات ختان الإناث

يقول الفقيه ابن الحاج (توفى عام 1336): «والسُنّة في ختان الذكر إظهاره وفي ختان النساء إخفاؤه». هذا القول يصوّر الواقع حتى في أيّامنا. لذلك لم تنكشف حقيقة ممارسة ختان الإناث إلاّ في العقدين الأخيرين. وحتى الآن ما زال الكثير من الناس يجهل حتى معنى ختان الإناث ويستغربون وجوده في دولة إسلاميّة مثل مصر. والإحصائيّات المتوفرة في هذا الخصوص غير وافية ولا تُعرف بصورة مؤكدة الدول التي تنتشر بها هذه العادة. والحملة الحاليّة ضد ختان الإناث قد يساعد على كشف هذه الدول، ولكن قد يكون أيضاً عائقاً خوفاً من الدعاية السيّئة التي تنتج عن ذلك.

يشير مصدر أنه يتم في العالم ختان قرابة 2.000.000 طفلة سنوياً. أي بمعدّل 3.8 طفلة كل دقيقة. ويشير مصدر آخر أن نسبة المختونات من الإناث في العالم تبلغ 5%، أي بمجموع 100 مليون أنثى.

وقد نشرت منظمة الصحّة العالميّة عام 1994 و1996 و1998 أرقاماً بخصوص النساء المختونات في 28 دولة أفريقية تمارس ختان الإناث، من بينها 17 دولة عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي. ويتبين من هذه الأرقام أن عدد المختونات هو كما يلي:

1994 114296900

1996 132490000

1998 136797440

ويشير هذا المصدر أن 15% إلى 20% من عدد النساء المختونات ختن حسب الدرجة الثالثة (الختان الفرعوني). وأن كل سنة يتم ختان مليوني فتاة. وفيما يخص مصر، ذكرت الإحصائيّات التي أصدرتها منظمة الصحّة العالميّة عام 1994 أن نسبة المختونات هناك تبلغ 50% أي ما يوازي 13.625.000 امرأة. ثم قدرت نسبة المختونات عام 1996 بـ 80% أي ما يوازي 24.710.000 امرأة. ثم قدرت نسبة المختونات عام 1998 بـ 97% أي ما يوازي 27.905.930 امرأة. هذا الاختلاف بين الإحصاء الأوّل والثالث لا يعني أن ختان الإناث قد ارتفع في مصر خلال السنين الأربعة الأخيرة بمعدّل 47%، بل إن المعلومات أصبحت أكثر دقّة بخصوصه. وهذا يبيّن مدى التعتيم الذي يسيطر على موضوع ختان الإناث وصعوبة الحصول على معلومات أكيدة بخصوصه. ونشير إلى أن منظمة الصحة العالمية لا تهتم بدول غير أفريقية تمارس ختان الإناث مثل إندونيسيا واليمن والإمارات وعُمان والسعودية.

الجزء الثاني
الختان والجدل الديني

كل جدل حول الختان يبدأ بالدين. فاليهود والمسيحيّون والمسلمون يعتقدون أن الله أنزل للبشريّة شرائع تنظم علاقة الإنسان بأخيه وبالله، وأن هذه الشرائع جاءت ضمن رسالات أؤتمن عليها الأنبياء والمرسلون وتم توثيقها في «الكتب المقدّسة» أو «الكتب السماويّة». وهذه الشرائع نهائيّة لا تقبل التبديل، وإن أمكن تفسيرها في بعض الأحيان. وأول سؤال يدور حول ما إذا كانت تلك الشرائع قد سنّت على الختان أم لا. وتفادياً للتكرار، نشير هنا إلى أن الكتب المقدّسة للطوائف الثلاث لم تذكر بتاتاً ختان الإناث، فكل ما جاء فيها يخص ختان الذكور.

الفصل الأوّل
الختان في الفكر الديني اليهودي

1) نصوص الكتب المقدّسة اليهوديّة عن الختان

تضم التوراة عدة نصوص عن ختان الذكور أهما نصّان في سفر التكوين وسفر الأحبار هما:

التكوين: الفصل 17

(1) ولمّا كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة، تراءى له الرب وقال له: أنا الله القدير، فسِر أمامي وكن كاملاً. (2) سأجعل عهدي بيني وبينك وسأكثرك جدّاً جدّاً. (3) فسقط أبرام على وجهه. وخاطبه الله قائلاً: (4) ها أنا أجعل عهدي معك فتصير أبا عدد كبير من الأمم (5) ولا يكون اسمك أبرام بعد اليوم، بل يكون اسمك إبراهيم، لأني جعلتك أبا عدد كبير من الأمم. (6) وسأنميك جدّاً جدّاً وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون. (7) وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك مدى أجيالهم، عهداً أبديّاً، لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك. (8) وأعطيك الأرض التي أنت نازل فيها، لك ولنسلك من بعدك، كل أرض كنعان، ملكاً مؤبّداً، وأكون لهم إلهاً. (9) وقال الله لإبراهيم: وأنت فاحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك مدى أجيالهم. (10) هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يختتن كل ذكر منكم. (11) فتختنون في لحم

كانوا عليها في الدنيا، وعلى صفاتهم وهيئاتهم وأحوالهم فيبعث كل عبد على ما مات عليه. ثم ينشئهم الله سبحانه كما يشاء.

وهل تبقى تلك الغرلة التي كمّلت خلقهم في القبور أو تزول؟ يمكن هذا وهذا، ولا يعلم بخبر يجب المصير إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

ملحق 2: باب الختان لمحمّد الشوكاني (توفّى عام 1834)1

1- {عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: «إختتن إبراهيم خليل الرحمن بعدما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم» متّفق عليه إلاّ أن مسلماً لم يذكر السنين}.

قوله الختان بكسر المعجمة وتخفيف المثنّاة مصدر ختن أي قطع والختن بفتح ثم سكون: قطع بعض مخصوص من عضو مخصوص. والإختتان والختان إسم لفعل الخاتن ولموضع الختان كما في حديث عائشة «إذا إلتقى الختانان».

قال الماوردي ختان الذكر قطع الجلدة التي تغطّي الحشفة والمستحب أن تستوعب من أصلها عند أوّل الحشفة وأقل ما يجزيء أن لا يبقى منها ما يتغشّى به. وقال إمام الحرمين المستحق في الرجال قطع الغلفة وهي الجلدة التي تغطّي الحشفة حتّى لا يبقي من الجلدة شيء يتدلّى. وقال إبن الصبّاغ حتّى تنكشف جميع الحشفة. وقال إبن كج فيما نقله الرافعي يتأدّى الواجب بقطع شيء ممّا فوق الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها. قال النووي وهو شاذ والأوّل هو المعتمد.

قال الإمام والمستحق من ختان المرأة ما ينطلق عليه الإسم وقال الماوردي ختانها قطع جلدة تكون في أعلى فرجها فوق مدخل الذكر كالنواة أو كعرف الديك والواجب قطع الجلدة المستعلية منه دون إستئصاله.

قال النووي ويسمّى ختان الرجل إعذاراً بذال معجمة وختان المرأة خفضاً بخاء وضاد معجمتين وقال أبو شامة كلام أهل اللغة يقتضي تسمية الكل إعذاراً والخفض يختص بالنساء. قال أبو عبيد عذرت الجارية والغلام وأعذرتهما ختنتهما واختتنتهما وزناً ومعنى. قال الجواهري والأكثر خفض الجارية.

قال وتزعم العرب أن الولد إذا ولد في القمر إتّسعت غلفته فصار كالمختون وقد إستحب جماعة من العلماء فيمن ولد مختوناً أن يمر بالموسى على موضع الختان من غير قطع. قال أبو شامة وغالب من يكون كذلك لا يكون ختانه تامّاً بل يظهر طرف الحشفة. فإن كان كذلك وجب تكميله.

قوله بالقدوم، بفتح القاف وضم الدال وتخفيفها، آلة النجارة. وقيل إسم الموضع الذي إختتن فيه إبراهيم وهو الذي في القاموس.

قد ذكره (صاحب الفتح) في باب فضل إبراهيم الخليل من رواية أبي هريرة مع ذكر السنين. وأورد المصنّف الحديث في هذا الباب للإستدلال به على أن مدّة الختان لا تختص بوقت معيّن وهو مذهب الجمهور وليس بواجب في حال الصغر. وللشافعيّة وجه أنه يجب على الولي أن يختن الصغير قَبل بلوغه. ويردّه حديث إبن عبّاس الآتي. ولهم أيضاً وجه أنه يحرّم قَبل عشر سنين. ويردّه حديث «أن النبي (ص) ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما». أخرجه الحاكم البيهقي من حديث عائشة وأخرجه البيهقي من حديث جابر. قال النووي بعد أن ذكر هذين الوجهين وإذا قلنا بالصحيح إستحب أن يختتن في اليوم السابع من ولادته. وهل يحسب يوم الولادة من السبع أو يكون سبعة سواء فيه وجهان أظهرهما يحسب إنتهى.

وأختلف في وجوب الختان فروى الإمام يحيى بن العترة والشافعي وكثير من العلماء أنه واجب في حق الرجال والنساء. وعند مالك وأبي حنيفة والمرتضي قال النووي وهو قول أكثر العلماء أنه سُنّة فيهما. وقال الناصر والإمام يحيى أنه واجب في الرجال لا النساء.

إحتج الأوّلون بما سيأتي من حديث عثيم بلفظ «ألق عنك شعر الكفر واختتن»، وهو لا ينتهض للحجّية لما فيه من المقال الذي سنبيّنه هنا لك. وبحديث أبي هريرة أن النبي (ص) قال: «من أسلم فليختتن». وقد ذكره الحافظ في التلخيص ولم يضعفه وتعقّب بقول إبن المنذر وليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سُنّة تتّبع. وبحديث أم عطيّة وكانت خافضة بلفظ: «أشِمِّي ولا تُنهِكي» عند الحاكم والطبراني والبيهقي وأبي نعيم من حديث الضحّاك بن قيس وقد أختلف فيه على عبد الملك إبن عمير فقيل عنه عن الضحّاك. وقيل عنه عن عطيّة القرظي رواه أبو نعيم. وقيل عنه عن أم عطيّة رواه أبو داوود في السُنَن وأعلّه بمحمّد بن حسّان فقال إنه مجهول ضعيف وتبعه إبن عدي في تجهيله والبيهقي وخالفهم عبد الغني بن سعيد فقال هو محمّد بن سعيد المصلوب في الزندقة. ورواه إبن عدي من حديث سالم بن عبد الله إبن عمر. والبزّار من حديث نافع كلاهما عن عبد الله بن عمر مرفوعاً بلفظ: «يا نساء الأنصار إختضبن غمساً واختفضن ولا تُنهِكن وإيّاكن وكفران النعم». قال الحافظ وفي إسناد أبي نعيم مندل بن علي وهو ضعيف وفي إسناد إبن عدي خالد بن عمر والقرشي وهو أضعف من مندل. ورواه الطبراني وابن عدي من حديث أنس نحو حديث أبي داوود قال إبن عدي تفرّد به زائدة وهو منكر. قاله البخاري عن ثابت. وقال الطبراني تفرّد به محمّد بن سلام.

واحتج القائلون بأنه سُنّة بحديث «الختان سُنّة في الرجال مَكرُمَة في النساء». رواه أحمد والبيهقي من حديث الحجّاج بن أرطأة عن أبي المليح بن أسامة عن أبيه والحجّاج مدلّس وقد إضطرب فيه قتادة رواه هكذا وتارة رواه بزيادة شدّاد بن أوس بعد والد أبي المليح. أخرجه إبن أبي حاتم في العلل والطبراني في الكبير. وتارة رواه عن مكحول عن أبي أيّوب. أخرجه أحمد وذكره إبن أبي حاتم في العلل. وحكي عن أبيه أنه أخطأ من حجّاج أو من الراوي عنه وهو عبد الواحد بن زياد. وقال البيهقي هو ضعيف منقطع. وقال إبن عبد البر في التمهيد هذا الحديث يدور على حجّاج بن أرطأة وليس ممّن يحتج به. قال الحافظ وله طريق أخرى من غير رواية حجّاج. فقد رواه الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث إبن عبّاس مرفوعاً وضعّفه البيهقي في السُنَن. وقال في المعرفة لا يصح رفعه وهو من رواية الوليد عن أبي ثوبان عن إبن عجلان عن عكرمة عنه ورواته موثوقون إلاّ أن فيه تدليساً. ومع كون الحديث لا يصلح للإحتجاج لا حجّة فيه على المطلوب لأن لفظة السُنّة في لسان الشارع أعم من السُنّة في إصطلاح الأصوليّين.

واحتج المفصّلون لوجوبه على الرجال بحجج القول الأوّل ولعدم وجوبه على النساء بما في الحديث الذي إحتج به أهل القول الثاني من قوله «مَكرُمَة في النساء».

والحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب والمتيقّن السُنّة كما في حديث «خمس من الفطرة» ونحوه والواجب الوقوف على المتيقّن إلى أن يقوم ما يوجب الإنتقال عنه.

قال البيهقي أحسن الحجج أن يحتج بحديث أبي هريرة المذكور في الباب أن إبراهيم إختتن وهو إبن ثمانين سنة وقد قال الله تعالى «ثم أوحينا إليك أن إتّبع مِلّة إبراهيم حنيفاً» (النحل 123:16). وصح عن إبن عبّاس أن الكلمات التي أبتلي بهن إبراهيم فأتمّهن هن خصال الفطرة ومنهن الختان. والإبتلاء غالباً إنّما يقع بما يكون واجباً. وتعقّب بأنه لا يلزم ما ذكر إلاّ أن كان إبراهيم فعله على سبيل الوجوب. فإنه من الجائز أن يكون قد فعله على سبيل الندب. فيحصل إمتثال الأمر بإتّباعه على وفق ما فعل وقد تقرّر أن الأفعال لا تدل على الوجوب. وأيضاً فباقي الكلمات العشر ليست واجبة. وقال الماوردي أن إبراهيم لا يفعل ذلك في مثل سنّه إلاّ عن أمر من الله. والحاصل أن الإستدلال بفعل إبراهيم على الوجوب يتوقّف على أنه كان عليه واجباً. فإن ثبت ذلك إستقام الإستدلال.

2- {وعن سعيد بن جبير قال سئل إبن عبّاس «مثل من أنت حين قبض رسول الله (ص) قال أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتّى يدرك» رواه البخاري}.

قوله «حتّى يدرك»: الإدراك في أصل اللغة بلوغ الشيء وقته وأراد به ههنا البلوغ. والحديث يدل على ما أسلفناه من أن الختان غير مختص بوقت معيّن وقد تقدّم الكلام فيه في الحديث الذي قَبله. ومن فوائد هذا الحديث أن إبن عبّاس كان عند موت النبي (ص) في سن البلوغ. وسيأتي ذكر الإختلاف في عمره عند موت النبي (ص) في باب ما يقطع الصلاة بمروره من أبواب السترة.

3- {وعن إبن جريح قال أخبرت عن عثيم بن كلب عن أبيه عن جدّه «إنه جاء إلى النبي (ص) فقال قد أسلمت قال ألق عنك شعر الكفر يقول أحلق. قال وأخبرني آخر معه أن النبي (ص) قال لآخر ألق عنك شعر الكفر واختتن» رواه أحمد وأبو داوود}.

وأخرجه أيضاً الطبراني وابن عدي والبيهقي. قال الحافظ وفيه إنقطاع وعثيم وأبوه مجهولان. قاله إبن القطّان وقال عبدان هو عثيم بن كثير بن كلب والصحابي هو كليب وإنّما نسب عثيم في الإسناد إلى جدّه. وقد وقع مبيّناً في رواية الواقدي أخرجه إبن منده في المعرفة وقال إبن عدي الذي أخبر عن إبن جريج به هو إبراهيم بن أبي يحيى وعثيم بضم العين المهملة ثم ثاء مثلّثة بلفظ التصغير. والحديث إستدل به من قال بوجوب الختان لما فيه من لفظ الأمر به. وقد تقدّم الكلام عليه.

فائدة: أختلف في ختان الخنثى فقيل يجب ختانه في فرجيه قَبل البلوغ. وقيل لا يجوز حتّى يتبيّن. وهو الأظهر قاله النووي. وأمّا من له ذكران فإن كانا عاملين وجب ختانهما. وإن كان أحدهما عاملاً دون الآخر ختن. وإذا مات إنسان قَبل أن يختتن فلأصحاب الشافعي ثلاثة أوجه الصحيح المشهور لا يختن كبيراً كان أو صغيراً، والثاني يختن، والثالث يختن الكبير دون الصغير.

ملحق 3: فتوى الشيخ حسين محمّد مخلوف (دار الإفتاء - مصر / 1949)2

حُكم الختان

المبدأ: أكثر أهل العلم على أن ختان الأنثى ليس واجباً وتركه لا يوجب الإثم وأن ختان الذكر واجب وهو شعار المسلمين وملّة إبراهيم عليه السلام

سئل:

ورد إلينا إستفتاء من عبد الفتّاح أفندي السيّد عن خفاض البنت وهو المسمّى بالختان هل هو واجب شرعاً أو غير واجب

أجاب:

إن الفقهاء إختلفوا في حُكم الختان لكل من الذكر والأنثى هل هو واجب أو سُنّة وليس بواجب. فمذهب الشافعيّة كما في المجموع للإمام النووي على أنه واجب في حق الذكر والأنثى وهو عندهم المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور. وذهب الحنابلة كما في المغني لابن قدامة إلى أنه واجب في حق الذكور وليس بواجب بل هو سُنّة ومَكرُمَة في حق الأنثى وهو قول كثير من أهل العلم. ومذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنه سُنّة وليس بواجب في حقّها وهو من شعار الإسلام. فنخلص من ذلك أن أكثر أهل العلم على أن خفاض الأنثى ليس واجباً وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ومروي أيضاً عن بعض أصحاب الشافعي فلا يوجب تركه الإثم - وأن ختان الذكر واجب وهو شعار المسلمين ومن مِلّة إبراهيم عليه السلام وهو مذهب الشافعيّة والحنابلة.

ومن هذا يعلم أن لا إثم في ترك خفض البنات (ختانهن) كما درج عليه كثير من الأمم بالنسبة لهن. والله تعالى أعلم.

ملحق 4: فتوى الشيخ علاّم نصّار (دار الإفتاء - مصر / 1951)3

ختان البنات

المبادئ

1) ختان البنات من شعار الإسلام وردت به السُنّة النبويّة.

2) إتّفقت كلمة فقهاء المسلمين وأئمّتهم على مشروعيّته، لما فيه من تلطيف الميل الجنسي في المرأة، والإتّجاه به إلى الإعتدال المحمود.

3) النظريّات الطبّية في الأمراض وطرق علاجها ليست مستقرّة ولا ثابتة، فلا يصح الإستناد إليها في إستنكار الختان الذي رأى فيه الشارع الحكيم حِكمته.

4) ما أثير حول مضار ختان البنات آراء فرديّة لا تستند إلى أساس علمي متّفق عليه، ولم تصبح نظريّة علميّة مقرّرة.

سئل:

من مجلّة لواء الإسلام عن بيان حُكم الشريعة فيما نشرته مجلّة الدكتور في عددها الأخير بتاريخ مايو سنة 1591 ملحق، في موضوع ختان البنات لطائفة من الأطبّاء.

أجاب:

بأنه سبق أن أصدرت فتوى مسجّلة بالدار بأن ختان الأنثى من شعار الإسلام وردت به السُنّة النبويّة، واتّفقت كلمة فقهاء المسلمين وأئمّتهم على مشروعيّته مع إختلافهم في كونه واجباً أو سُنّة. فإننا نختار في الفتوى القول بسُنّيته لترجيح سنده ووضوح وجهته. والحِكمة في مشروعيّته ما فيه من تلطيف الميل الجنسي في المرأة والإتّجاه به إلى الإعتدال المحمود إنتهى.

ولمزيد البيان وتحقيقاً للغرض الكريم الذي ترمي إليه مجلّة لواء الإسلام نضيف إلى الفتوى ما يأتي: ورد عن رسول الله (ص) أحاديث كثيرة تدل في مجموعها على مشروعيّة ختان الأنثى. منها قوله عليه السلام خمس من الفطرة وعد منها الختان. وهو عام للذكر والأنثى. ومنها قوله عليه السلام: من أسلم فليختتن. وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال: يا نساء الأنصار إختفضن (أي إختتن) ولا تُنهِكن (أي لا تبالغن) وحديث الختان سُنّة في الرجال ومَكرُمَة في النساء. ومن هذا يتبيّن مشروعيّة ختان الأنثى. وإنه من محاسن الفطرة وله أثر محمود في السير بها إلى الإعتدال.

أمّا آراء الأطبّاء ممّا نشر في مجلّة الدكتور وغيرها عن مضار ختان الأنثى فإنها فرديّة ولا تستند إلى أساس علمي متّفق عليه، ولم تصبح نظريّة مقرّرة. وهم معترفون بأنه للآن لم يحصل إختبار للنساء المختتنات، وأن نسبة الإصابة بالسرطان في المختتنين من الرجال أقل منها في غير المختتنين. وبعض هؤلاء الأطبّاء يرمي بصراحة إلى أن يعهد بعمليّة ختان الأنثى إلى الأطبّاء دون الخاتنات الجاهلات، حتّى تكون العمليّة سليمة مأمونة العواقب الصحّية. على أن النظريّات الطبّية في الأمراض وطرق علاجها ليست مستقرّة ولا ثابتة، بل تتغيّر مع الزمن واستمرار البحث. فلا يصح الإستناد إليها في إستنكار الختان الذي رأى فيه الشارع الحكيم الخبير العليم حِكمته وتقويماً للفطرة الإنسانيّة، وقد علّمتنا التجارب أن الحوادث على طول الزمن تظهر لنا ما قد يخفى علينا من حِكمة الشارع فيما شرّعه لنا من أحكام، وهدانا إليه من سُنَن، والله يوفّقنا جميعاً إلى سبل الرشاد.

ملحق 5: فتوى أولى للشيخ جاد الحق علي جاد الحق (دار الإفتاء - مصر / 1981)4

ختان البنات

المبادئ

1) إتّفق الفقهاء على أن الختان في حق الرجال والخفاض في حق الإناث مشروع ثم إختلفوا في كونه سُنّة أو واجباً.

2) الختان للرجال والنساء من صفات الفطرة التي دعا إليها الإسلام وحث على الإلتزام بها.

سئل:

بالطلب المقيّد برقم 296 سنة 1980 المقدّم من السيّد/... قال فيه: إن له بنتين صغيرتين إحداهما ست سنوات والأخرى سنتان وأنه قد سأل بعض الأطبّاء المسلمين عن ختان البنات، فأجمعوا على أنه ضار بهن نفسيّاً وبدنيّاً. فهل أمر الإسلام بختانهن أو أن هذا عادة متوارثة عن الأقدمين فقط؟

أجاب:

قال الله تعالى: «ثم أوحينا إليك أن إتّبع مِلّة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (النحل 123:16). وفي الحديث الشريف5: «إختتن إبراهيم وهو إبن ثمانين سنة». وروى أبو هريرة6 رضي الله عنه قال رسول الله (ص): «الفطرة خمس، أو خمس من الفطرة: الختان والإستحداد ونتف الإبط وقص الشارب وتقليم الأظافر».

وقد تحدّث الإمام النووي الشافعي7 في تفسير الفطرة بأن أصلها الخلقة. قال الله تعالى: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» (الروم 30:30). واختلف في تفسيرها في الحديث: قال الشيرازي والماوردي وغيرهما: هي الدين. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: فسّرها أكثر العلماء في الحديث بالسُنّة. ثم عقّب النووي بعد سرد هذه الأقوال وغيرها بقوله: قلت: نفسّر الفطرة هنا بالسُنّة هو الصواب. ففي صحيح البخاري عن إبن عمر عن النبي (ص) قال: «من السُنّة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظافر». وأصح ما فسّر به غريب الحديث تفسيره بما جاء في رواية أخرى، لا سيما في صحيح البخاري.

وقد إختلف أئمّة المذاهب وفقهاؤها في حُكم الختان:


1 هذا النص باب من كتاب نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار شرح منتقى الأخبار للشوكاني. ويجد القارئ بين قوسين {...} الحديث الذي يتبعه تعليق الشوكاني. وقد إعتمدنا هنا على طبعة دار الكتب العلميّة، بيروت، دون تاريخ، جزء أول، ص 111-114، وعلى طبعة دار الجيل، بيروت، دون تاريخ، جزء أول، ص 137-141.

2 الفتاوى الإسلاميّة من دار الإفتاء المصريّة، المجلّد الثاني، القاهرة، 1981، ص 449. صدرت هذه الفتوى في أول شعبان 1368 هـ - 28 مايو 1949.

3 الفتاوى الإسلاميّة من دار الإفتاء المصريّة، المجلّد السادس، القاهرة 1982، ص 1985-1986. صدرت هذه الفتوى في 19 رمضان 1970 هـ - 23 يونيو 1951.

4 الفتاوى الإسلاميّة من دار الإفتاء المصريّة، المجلّد التاسع، القاهرة 1983، ص 3199-3125. صدرت هذه الفتوى في 23 ربيع الأول 1401 هـ - 29 يناير 1981.

5 متّفق عليه - البخاري في كتاب بدء الخلق وفي باب الختان في كتاب الاستئذان - ومسلم في باب فضائل إبراهيم - في كتاب الفضائل.

6 متّفق عليه - شرح السُنّة للبغوي جـ 12 ص 109 باب الختان.

7 في المجموع جـ 1 ص 284.