Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

المسيح للأبرص الذي شفاه أن يقرّب «ما أمر به موسى من قربان» (متى 4:8). فيجب لذلك المحافظة على الختان بعد مجيء المسيح.

ويجيب توما على هذا الاعتراض بذكر قول بولس: «فلا يحكم عليكم أحد في المأكول والمشروب أو في الأعياد والأهلة والسبوت. فما هذه إلاّ ظل الأمور المستقبلة» (قولسي 16:2-17). ويرى توما أن الأوامر الأخلاقيّة تدوم أبداً، ولكن الأوامر الخاصّة بالشعائر الخارجيّة فهي تفنى مع تحقيق ما ترمز إليه. فقد قال المسيح في آخر لحظة من حياته قَبل موته: «تم كل شيء» (يوحنّا 30:19). وقد شُق حجاب الهيكل إلى شطرين (متى 51:27). وعندها، انتهت الشعائر اليهوديّة. وقد وعد الله إبراهيم أن يجعل له نسلاً يبارك به كل الأمم، وهذا النسل هو المسيح. فبعد مجيء المسيح تحقّق الوعد ولا حاجة بعد ذلك للختان الذي كان علامة للعهد القديم. وحلت محل علامة العهد القديم علامة العهد الجديد وهي المعموديّة. كما حل الأحد محل السبت، وحل محل عيد فصح اليهود عيد فصح المسيح وقيامته. وإن استمر بعض التلاميذ في ختان المسيحيّين من أصل يهودي في بداية انتشار المسيحيّة، فالهدف منه كان عدم تشكيكهم حتى تبليغ الإنجيل لهم. أمّا وقد بُلغُوا الإنجيل، فلم يعد بعد لفريضة الختان مكان. فمن يمارس الختان لسبب غير صحّي يقترف خطيئة كبيرة لأن ذلك يعني التصميم على الخطأ.

ويورد «توما الأكويني» اعتراضاً آخر. يقول المسيح: «قد جعلت لكم من نفسي قدوة لتصنعوا أنتم أيضاً ما صنعت إليكم» (يوحنّا 15:13). ولكن يقول القدّيس بولس: «إذا اختتنتم، فلن يفيدكم المسيح شيئاً» (غلاطية 5:2). فلماذا ختن المسيح؟ ويرى «توما الأكويني» أن ذلك قد تم لأسباب كثيرة:

- ليثبت أن له جسد حقيقي، وذلك رداً على من كان يرى فيه جسداً غير حقيقي.

- ليؤكد على الختان الذي أمر به الله سابقاً.

- ليثبت أنه من نسل إبراهيم الذي أمر بالختان.

- لكي لا يرفضه اليهود بسبب عدم ختانه.

- حتى يعلمنا فضيلة الطاعة.

- حتى يريح الآخرين من حمل الناموس بحمله هو ذاك الناموس: «أرسل الله ابنه مولوداً في حُكم الشريعة ليفتدي الذين هم في حُكم الشريعة» (غلاطية 4:4).

3) الجدل الديني حول الختان عند مسيحيّي مصر

أ) ختان الذكور عند مسيحي مصر

رأينا سابقاً أن اليهود والنصارى (المسيحيّين من أصل يهودي) قد حاولوا إدخال الختان في المجتمع الوثني الذي أصبح تدريجيّاً مسيحيّاّ. وقد تصدّى آباء الكنيسة لهذه المحاولة التي استمرّت مدّة طويلة. وقد ساعدت القوانين الرومانيّة في الحد من ممارسة الختان. فقد أصدرت السلطات الرومانيّة قوانين تعاقب بالموت أو النفي ومصادرة أموال الطبيب الذي يجري عمليّة الختان على غير اليهودي كما سنرى في الجدل القانوني.

كانت مصر خاضعة للحُكم الروماني ولكن القوانين الرومانيّة لم تكن تطبّق فيها بكل صرامة فيما يخص الختان الذي كان يمارسه ليس فقط اليهود بل أيضاً رجال الدين الوثنيّون، إن صح هذا التعبير على ديانة أهل مصر القديمة. فقد سمحت لهم القوانين الرومانيّة الاستمرار في الختان على شرط تقديم وثيقة ميلاد تثبت انتماء الشخص لطبقة رجال الدين. ومن جهة أخرى، كانت مصر بلد بعيدة عن سيطرة الرومان، مثلها مثل الحبشة والجزيرة العربيّة. ممّا سمح لليهود في هذه البلاد أن يستمرّوا في نشاطهم لتهويد غير اليهود وختانهم. كما أنهم كانوا أيضاً يفرضون الختان على عبيدهم. وكما هو الأمر في فلسطين، تحوّل بعض اليهود المصريّين إلى المسيحيّة وكوّنوا طائفة خاصّة منفصلة عن الطائفة المسيحيّة من أصل وثني واستمرّوا في ممارسة الختان حسب الشعائر اليهوديّة. وبرهان ذلك موقف كيريلوس الذي ذكرناه في الفصل السابق ضد الختان والذي ما كان ليحدث لولا أنه كان يمارس في زمنه بصورة كبيرة.

وفي الجزيرة العربيّة استمر اليهود في ممارسة الختان. وعندما جاء محمّد، أسلم عدد من اليهود الذين لعبوا دوراً مهما في بلورة الفكر الديني الإسلامي، كما سنرى في القسم القادم. فأدخلوا فيه ما يطلق عليه اليوم بالإسرائيليّات، ومن بينها الختان. وقد نجحوا في ذلك على عكس ما حدث في الإمبراطوريّة الرومانيّة عندما أصبحوا «نصارى». وبعد أن فتح المسلمون مصر وتحوّل عدد من المصريّين للإسلام، ثبّتوا فيها عادة الختان التي كانت تمارس هناك.

لا يسمح المجال هنا في استعراض موقف مسيحيّي مصر من الختان منذ الفتح الإسلامي. ويكفينا هنا عرض ما جاء حول الختان في كتاب القوانين المعروف بـ»المجموع الصفوي» الذي ألفه الشيخ الصفي أبي الفضائل بن العسّال (توفى حوالي عام 1265). وقد استبدلنا هنا ترجمته للكتاب المقدّس بالترجمة الحديثة. يقول ابن العسّال:

«وأمّا الختان فهو من الفرائض العتيقة فُرِض لتمييز شعب الله من باقي الأمم على سبيل ما توسم الأشياء لمالكها... وأمّا في [الفرائض] الحديثة [عند المسيحيّين]، فالختانة عند من يختتن من أصحابها على سبيل العادة لا من الفرائض الشرعيّة. وذلك أنه فرض عملها في التوراة في ثامن يوم من ولادة المختون. فهي في غير اليوم الثامن لا تعد ختانة شرعيّة. والذين يعملونها من أصحاب الحديثة [المسيحيّين] لا يعملونها في اليوم الثامن ولا يجيزون ذلك. والختانة عندنا ممّا يجوز تركها ويجوز عملها عملاً غير شرعي. والدليل على ذلك قول الرسول [بولس] في الفصل السابع من رسالته إلى أهل قورنتس: «ليس الختان بشيء ولا الغلف بشيء. بل الشيء هو حفظ وصايا الله» (19:7). وقوله أيضاً لأهل غلاطية في الفصل الخامس: «ففي المسيح يسوع لا قيمة للختان ولا للغلف، وإنّما القيمة للإيمان العامل بالمحبّة» (6:5). وكرّر هذا القول في الفصل السادس منها فقال: «فما الختان بشيء ولا الغلف بشيء، بل الشيء هو الخلق الجديد» (15:6)، يعني المعموديّة».

ويضيف ابن العسّال:

«أن الأمور الشرعيّة تنقسم إلى قسمين:

أحدهما الفروض التي يجب عملها وما يجوز تركها على كل حال وفي كل زمان في ما أمر به ونُهِي عنه. أمّا في الأمر فكالمعموديّة التي بغيرها لا يُنال ملكوت السماء وكاعتقاد توحيد الذات الإلهيّة وتثليث أقانيمها [...] وأمّا في النهي فكالنهي عن القتل والزنا فإنه [بولس] قال إن أصحاب هذه الكبائر لا يرثون ملكوت الله.

والثاني يجوز عمله وتركه كالصلوات والأصوام النوافل والختان المستشهد في جواز الأمرين فيه بما تقدّم ذكره وما يجري مجراه من الأمور الاعتياديّة.

وباقي الطوائف عند كل منها من العادات ما هي له مستحسنة ويقبّحه عليها من سواها كتشطيب الوجه عند الحبشة والنوبة وكحلق الذقن عند الفرنج وكحلق كهنة الروم أوساط رؤوسهم. فإن قالت الطائفتان إن بطاركتهم أمرتهم بذلك قيل لهما وكذلك القبط المختتنون جوّزت لهم بطاركتهم الختان.

ولقائل أن يقول وكما فعل الرسول [بولس] الختان لضرورة ومنفعة كذلك فعله القبط للضرورة والمنفعة. أمّا الضرورة فلكونهم ذمّة بين من يختتنون فقد يميل صبيانهم لأسباب رديّة أن يختتنوا بعد العمّاد وهذا محذور فعله، وضرورات أخر قد ذكرت في غير هذا الكتاب. وأمّا المنفعة فقد ذكر بعض رجال الطب المتفلسفين المصنّفين أن الختان يضعف آلة الشهوة فتقل وهذا بالاتفاق مستحب».

من هذه الفقرة الأخيرة يظهر واضحاً أثر المسلمين في مصر على إبقاء عمليّة الختان بين المسيحيّين «لكونهم ذمّة بين من يختتنون». كما يظهر أيضاً أثر الفكر اليهودي. فأبن العسّال ينقل عن الطبيب والفيلسوف اليهودي ابن ميمون (انظر الملحق 25) الذي توفى في القاهرة عام 1204، دون أن يذكر اسمه، بأن الختان يضعف آلة الشهوة وأن ذلك مستحب. هذا وقد أكد ابن العسّال على أن لا تجرى عمليّة الختان بعد العمّاد في مكان آخر من كتابه إذ يقول: «والحذر من الختان بعد المعموديّة. فإنه يقطع من درجته وعليه في ذلك إثم وخطيئة». ويرى أن المعموديّة حلت محل الختان: «ولمّا كانت المعموديّة سرّاً من أسرار العهد الجديد يغسل النفس من أدناسها مجدّداً كل من اقتبله بإيمان ومميّزاً إيّاه عن الكفار والوثنيّين كما كان الختان مستعملاً في العهد القديم عند الإسرائيليين يميّزهم عن بقيّة الأمم».

باختصار يمكن القول إن ابن العسّال يعتبر الختان من المباحات، ولكنّه لا دور له في الخلاص. فقد حلت المعموديّة محله. ولذا لا يمكن إجراء الختان بعد المعموديّة لأن ذلك حط من قدرها. والختان يمارس كعادة مفيدة اجتماعيّاً سمح بها رجال الدين المسيحيّين في مصر بسبب تواجدهم كذمّة بين المسلمين، كما أن الختان مفيد لأنه «يضعف آلة الشهوة فتقل».

وموضوع ختان الذكور كان سبب خلاف بين الكنيسة الغربيّة والكنيسة القبطيّة والحبشيّة. ونحن نجد صداه في قرار المجمع الكنسي في 4 فبراير 1442 المعنون «اتفاق اتحاد مع أقباط ويعاقبة مصر وإثيوبيا». وقد تعرّض هذا الاتفاق إلى موضوع الختان فيقول إن الكنيسة تعتقد وتعترف وتعلم جميع الأشياء المتعلقة بناموس موسى والتي حلت محلها القرابين الحديثة. فتلك الأشياء التي كانوا يصنعوها في القديم مثل الذبائح والقرابين المحروقة وغيرها سنّها الله كدلالة لشيء آخر وكانت موافقة لخدمة الله في ذلك الزمان. ولكن بعد مجيء المسيح «الذي كان دليلاً على جميع هذا» انتهى وقتها. فبعد آلام المسيح، من يرى في الناموس القديم ضرورة للخلاص يرتكب خطيئة مميتة لأنه بذلك يعني أن الإيمان بالمسيح لا يكفي للخلاص دون طاعة الناموس القديم. وقد كانت هذه النواميس متبعة مؤقّتاً بعد آلام المسيح، ولكن بعد انتشار الإنجيل قرّرت الكنيسة عدم تطبيق هذه النواميس. فالذين يختتنون ويطبّقون النواميس القديمة يعتبرون خارجين عن الإيمان بالمسيح ولا نصيب لهم في الخلاص الأبدي إن لم يتركوا تلك الممارسات قَبل موتهم. فتوصي الكنيسة لجميع الذين يفتخرون باسم المسيح أن يمنعوا ويبطلوا الختان في كل زمان، قَبل أو بعد المعموديّة. فلا يمكن الحصول على الخلاص الأبدي إلاّ بترك الختان، إن كان وضع رجاءه في الختان أو لم يضع.

ورغم الاتفاق الصادر عن هذا المجمع فإن الختان ما زال يمارس بين مسيحيّي مصر على نطاق واسع بنسبة قد تصل 100%. وفي جدلي مع عامّة الأقباط، وجدت أنهم يعيدون نفس الأسباب التي يذكرها المسلمون هناك. فهم يرون أن الختان فُرض على إبراهيم، كما أن المسيح قد خُتن. ويضيفون بعد ذلك أن الختان يحافظ على نظافة العضو. وهم عامّة يجهلون ما دار بين الرسل حول الختان أو موقف القدّيس بولس وكيريلوس الكبير بطريرك الإسكندريّة من ختان الذكور. أمّا عند رجال الدين منهم، فقد كتب الأنبا غريغوريوس (توفى عام 2001)، وهو أعلى سلطة دينيّة قبطيّة في مصر بعد البابا شنودة، كتيّباً عنوانه «الختان في المسيحيّة». وبعد أن عرض موقف الكتب المقدّسة اليهوديّة من ختان الذكور قال:

«العهد القديم [...] كان تحضيراً للمسيح الآتي، وكانت أكثر طقوسه تشير إلى الفادي الذي سوف يأتي، وهو الحمل الذي سيحمل خطيئة العالم، وبموته عنّا ذبيحاً يرفع عنّا خطايانا. لذلك كان الدم في العهد القديم يشير إلى دم المسيح الفادي الآتي. وكان لا بد للدخول في العهد القديم من الدم علامة العهد. فالختان كان علامة بالدم في لحم البدن تذكيراً للإنسان بحاجته إلى الفادي الآتي، وهو المسيح».

ويضيف أنه بعد مجيء المسيح، «لم يعد للختان بقطع جليدة من لحم البدن كعلامة دم، ذات الأهمّية الروحيّة في العهد الجديد. فقد صارت الأهمّية بالأحرى للمعموديّة. فهي المدخل الحقيقي للعهد الجديد». ثم يستعرض نصوص الكتاب المقدّس عند المسيحيّين ويستنتج أن «المعموديّة إذاً هي ختان المسيح في العهد الجديد» وأن المختونين «بالروح والقلب هم المختونون على الحقيقة. أمّا المختونون في الجسد، فلا يُعد ختانهم بشيء». ويضيف:

«الختان في الجسد [...] أصبح في المسيحيّة نظافة لا طهارة، أمراً مندوباً إليه لما له من فوائد صحّية، مثله في ذلك مثل تقليم أظافر اليدين والرجلين حتى لا تتراكم فيها الأوساخ وبالتالي الميكروبات الضارّة. وإذاً فالختان للذكور حسن ومفيد، ولكنّه لم يعد شريعة في الدين المسيحي، بحيث يعاقب الإنسان على تركه».

وقد شدّد الأنبا غريغوريوس على عدم إجراء الختان بعد المعموديّة:

«وعملاً بمبدأ ضرورة المعموديّة للخلاص، وتهافت القيمة الروحيّة للختان مع فائدته الصحّية، أمرت الكنيسة بأن يسبق الختان العمّاد، وحذّرت من الختان بعد العمّاد، حرصاً على توكيد قيمة المعموديّة وبياناً لسموّها، وأنها المرموز إليه بالختان القديم. وإذا جاء المرموز إليه بطل الرمز».

ويذكر هنا قول ابن العسّال:

«وأمّا الختان فهو من الفرائض العتيقة [...] وأمّا في الحديثة، فالختانة عند من يختتن من أصحابها على سبيل العادة لا من الفرائض الشرعيّة [...]. والختانة عندنا ممّا يجوز تركها، ويجوز عملها عملاً غير شرعي [...]. ولا يجوز الإختتان بعد التعميد».

كما يذكر قول العلاّمة الأنبا أثناسيوس أسقف قوص في أواخر القرن الثالث عشر «والحذر من الختان بعد المعموديّة فإنه [...] عليه في ذلك إثم وخطيئة». وفي ردّه على سؤال وجّهه له مطران الروم الكاثوليك في أمريكا الشماليّة حول الختان، يقول الأنبا غريغوريوس:

«الختان عند الأقباط عادة قديمة ترجع جذورها إلى مصر القديمة الفرعونيّة، فهو عادة موروثة ومحترمة. وحيث إنها في العهد القديم كانت رمزاً إلى المعموديّة، وقد حلت المعموديّة محلها في العهد الجديد، لذلك فقدَ الختان عند الأقباط معناه الديني وصار عادة صحّية ومفيدة لنظافة البدن ووقاية من الأمراض الناتجة عن قذارة الغلفة إذا تجمّعت حولها الأوساخ والميكروبات. ولمّا كان رمزاً إلى المعموديّة، فالكنيسة تحرص على تنبيه المؤمنين إلى وجوب ممارسة الختان قَبل المعموديّة، وتوجّه نظرهم إلى قوانين الكنيسة التي تأمر بذلك».

ب) ختان الإناث عند مسيحيّي مصر

لقد سبق وذكرنا عند عرضنا لختان الإناث عند اليهود أن عادة ختان الإناث كانت معروفة في مصر قَبل المسيح. وقد استمرّت بعد ذلك. ففي القرن السادس بعد المسيح، يستعرض لنا «أيتوس»، عمليّة ختان الإناث في مصر، وقد كان طبيباً في البلاط البيزنطي:

«فبالإضافة إلى أن بعض النساء يكبر لديهن البظر في الحجم أكثر ممّا يجب، ويصبح بشع المنظر، وهذا شيء مخجل، فإنه إلى جانب ذلك يحتك بملابسهن طول الوقت، ويسبّب لديهن تهيّجاً ويثير لديهن شهوة المضاجعة. فبسبب كبر حجمه عزم المصريّون على استئصاله، وعلى الخصوص في الوقت الذي تستعد فيه الفتاة للزواج. ويتم إجراء هذه الجراحة على النحو التالي: يحضرون الفتاة ويجلسونها على مقعد بدون ظهر. ويقف خلفها شاب قوي ويضع يديه وذراعيه تحت فخذيها وعجزها، ويمسك برجليها وكل جسدها بقوّة. ويقف أمامها الشخص الذي يجري العمليّة. ويمسك ببظرها في يده اليمنى، ويشدّه إلى الخارج بيده اليسرى، وبيده اليمنى يبتره بأسنان أداة تشبه الكمّاشة».

وقد سئل الأنبا أثناسيوس أسقف قوص في أواخر القرن الثالث عشر: هل يجوز ختان البنات؟ فكان جوابه واضحاً قاطعاً: «لا رخصة لهن في ذلك، لا بعد عمّادهن ولا قَبل».

إلاّ أن ختان البنات استمر في مصر. وقد أشار الرحّالة الاسكتلندي «جيمس بروس» إلى محاولة المبشّرين الكاثوليك في بداية القرن السابع عشر مكافحة هذه العادة، ليس لأسباب أخلاقيّة أو صحّية، ولكن لأنهم كانوا يرون فيها عادة يهوديّة. وقد بدأت العادة تتراجع بين من أصبحوا كاثوليك. إلاّ أن الرجال الكاثوليك فضّلوا الزواج من المختونات غير الكاثوليك على غير المختونات من طائفتهم. ممّا يعني ارتداد الكاثوليك وضياع جهد المبشّرين. وعند ذلك، رفع المبشّرون القضيّة إلى سلطاتهم الدينيّة في روما التي أرسلت بعثة طبّية. وقد قرّرت هذه البعثة أن العضو الجنسي عند المرأة في مصر يختلف عمّا هو في بلاد أخرى، ممّا يجعل هذا العضو مقزّزاً لدرجة أنه يمنع ما لأجله يتم الزواج. وهكذا سمحت السلطات الدينيّة باستمرار تلك العادة على شرط أن تعلن الفتاة وأهلها بأن هذه العمليّة لا تجرى بنيّة تنفيذ عادة يهوديّة بل لأن عدم الختان يمنع الزواج.

والقول إن العضو الجنسي عند المرأة في مصر يختلف عمّا هو في بلاد أخرى مجرّد هراء وجهل بالواقع. فلا يوجد أي إثبات طبّي يثبت مثل هذا التعميم. وفي أيّامنا يحاول الأقباط محاربة ختان الإناث لسببين: أوّلاً لأنه لم يذكر في الكتب المقدّسة، وثانياً لأنه ضار. فيرى الأنبا غريغوريوس في رسالته السالفة الذكر أن ختان الإناث «خطأ، لأنه قتل لجزء حيوي من جسم البنت، ونحن نُعَلم شعبنا أن الختان الذي أمر به الله في العهد القديم كان للذكور وحدهم. أمّا البنات فلا ختان لهن. ولذلك نكرز للشعب أن ختان الإناث خطأ». وفي مكان آخر يقول: «الشريعة المسيحيّة لا تجيز ختان الإناث، وكل مصادرنا الكنسيّة مجمعة على ذلك». ويعيد علينا جواب الأنبا أثناسيوس أسقف قوص في أواخر القرن الثالث عشر الذي ذكرناه أعلاه. ثم يضيف: «إن ختان البنات خطأ وخطيئة. وهو ممنوع دينيّاً وإنسانيّاً وصحّياً، وهو يمثل بالنسبة للمرأة جريمة تشبه من بعض الوجوه جريمة خصاء الذكور من الرجال». ويسوق الأنبا غريغوريوس عدداً من شهادات الأطبّاء المسلمين وغير المسلمين الذين يؤكدون على ضرر ختان الإناث.

4) الجدل الديني حول الختان عند المسيحيّين الأمريكيّين

تعتبر الولايات المتحدة اليوم أكبر دولة مسيحيّة في العالم مارست وما زالت تمارس ختان الذكور على أطفالها على نطاق واسع لأسباب مختلفة كان أهمّها في البداية الحد من العادة السرّية التي كانت تعتبر سبباً لعدد كبير من الأمراض، كما سنرى في الجزء الطبّي. ولكن لعب وما زال يلعب التفسير الحرفي للتوراة عند الأصوليّين المسيحيّين دوراً هامّاً في تثبيت ختان الذكور في هذا البلد.

ومثلها مثل بريطانيا، مارست الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر ختان الإناث على نطاق واسع، وما زالت تمارسه ولو على نطاق ضيّق. وكان القصد من ذلك أيضاً الحد من العادة السرّية. ولم نجد جدلاً دينيّاً عند مسيحيّي الولايات المتحدة مؤيّداً أو رافضاً لختان الإناث كما هو الأمر فيما يخص ختان الذكور. لذا نقتصر هنا على الجدل الديني المسيحي حول ختان الذكور.

أ) التفسير الحرفي للتوراة عند الأصوليّين المسيحيّين

دخل ختان الإناث في الولايات المتحدة عام 1860 أخذاً عن الشعوب القديمة والقبائل الإفريقيّة من خلال دراسات علم الإنسان (الانتروبلوجية) التي أوضحت أن ختان الإناث يحد من النشاط الجنسي عندهن. وإذ أعتبر ختان الإناث مفيداً في هذا المجال، خاصّة للحد من العادة السرّية، رأى مؤيّدوه بأن تلك الفائدة يمكن أن تنتج أيضاً عن ختان الذكور. وهكذا تم إدخال ختان الذكور في الولايات المتحدة عام 1870، أي عشر سنين بعد ختان الإناث. فلم يكن ختان الذكور ممارساً في ذلك البلد قَبل ذلك التاريخ على غير اليهود إلاّ في حالات نادرة.

وفي أيّامنا، أصبحت الأسباب وراء ختان الذكور في الولايات المتحدة كثيرة ومتشابكة بين بعضها. فإذا ما سألت أهالي الأطفال حول سبب الختان، نجد أن منهم من يظن أن المستشفى أو القانون يفرضه. ومنهم من يرى فيه عادة اجتماعية تمارس من الأكثريّة لا يمكن تركها دون الوقوع تحت ضغط اجتماعي. وهناك من يريد أن يشابه الطفل أباه أو اخوته أو رفاقه في الصف. ومنهم من يظن أن الختان يعطي صبغة جماليّة للذكر. وهناك كثير من الأهل والأطبّاء الذين يحاولون ربط قرار الختان بأسباب طبّية.

ورغم تشعّب الأسباب، إلاّ أنه لا يمكن استبعاد أثر الدين حتى عندما يتم الختان لأسباب صحّية. فالأسباب الصحّية تخفي من ورائها تبريرات دينيّة دخلت في تركيبة الفكر الأمريكي وأصبحت أحد مكوّناته اللاشعوريّة. وإضافة إلى هذا التأثير غير المباشر، هناك تيّار مسيحي بروتستنتي يساند الختان بين المسيحيّين بصورة صريحة تنفيذاً لمبادئ التوراة التي يعتبرها هذا التيّار كتاباً لا ينطق إلاّ بالحق. وعلى هذا الأساس، يرى هذا التيّار أن الله لم يأمر عبثاً إبراهيم بختن نفسه، ولا بد من حقيقة علميّة وفائدة طبّية وراء هذا الأمر. وهذا التيّار المسيحي يؤيّد عامّة اليهود حتى في مجال السياسة ونجد بينهم من يدافع عن إسرائيل حتى أكثر من اليهود أنفسهم.

يشرح «جيم بيجيلو»، وهو قس وعالم نفس أمريكي معارض للختان، بأن الأمر بدأ في شكل منافسة بين رجال الدين ورجال الطب. فمع تقدّم علم الطب ومقدرة الأطبّاء في شفاء عدد متزايد من الأمراض، أخذت منزلة الأطبّاء تعلو على منزلة رجال الدين في أعين الناس. وعندما بدأ الأطبّاء يلجأون إلى الختان كوسيلة للحد من العادة السرّية التي كانوا يظنّوها سبباً لكثير من الأمراض، وجد رجال الدين في هذه المناسبة وسيلة لتأكيد دورهم ولسان حالهم يقول: «ألم نقل لكم ذلك قَبل رجال الطب؟ أنظروا كيف أن الله كان على حق عندما فرض الختان على إبراهيم ونسله». ولم يكتفوا بذلك، بل حاولوا البحث في التوراة عن وصفات طبّية يمكن استغلالها لإثبات أن التوراة كتاب مقدّس منزل من عند الله وهو أحق بالإتباع والتقدير من الأطبّاء.

وقد انضم إلى رجال الدين أطبّاء حاولوا بناء شهرتهم على صرحين: صرح العلم وصرح الدين. وهذا التوجّه الأمريكي المسيحي لا يختلف عمّا نجده عند بعض اليهود والمسلمين. ويكفي هنا التذكير بكتاب الطب النبوي والكتب الكثيرة المشابهة له التي تغزو السوق يومياً في العالم العربي والإسلامي. ويعتبر ماكميلان مثالاً مهماً للتيار المسيحي الأمريكي المتطرف.

أصدر هذا الطبيب المسيحي كتاباً عام 1963 وقد أعاد طبعه عام 1995 للمرّة الخامسة عشرة حفيده الطبيب «ستيرن» بعد أن أدخل عليه ما استجد من معلومات طبّية مثل مرض الإيدز. وقد ذكر على غلافه أنه بيع منه أكثر من مليون نسخة. وعنوان الكتاب (لن أنزل بك أي من تلك الأمراض) مقتبس من سفر الخروج:

«إن سمعت لصوت الرب إلهك، وصنعت ما هو مستقيم في عينيه، وأصغيت إلى وصاياه، وحفظت جميع فرائضه، لن أنزل بك أي من تلك الأمراض التي أنزلتها بالمصريّين، لأني أنا الرب معافيك» (الخروج 26:15).

ويسأل مؤلف الكتاب إن كان هذا الوعد ما زال ثابتاً حتى قرننا هذا؟ ويجيب بأن العلوم الطبّية تكتشف دوماً كيف أن طاعة الأوامر القديمة خلصت اليهود من الأمراض وأنها الوسيلة الأمثل للخلاص من ويلات كثيرة تصيب الجنس البشري.

ويكرّس الكتاب في كل طبعة فصل عن الختان. وفي الطبعة الأخيرة التي بين أيدينا، يروي لنا الكتاب حالة سرطان ذكر أدّى بصاحبه إلى الموت، ويقول: «إن ما يجعل هذا الموت فاجعة كبيرة هو أن علم الطب قد أثبت أن مثل هذا السرطان يمكن تفاديه من خلال إتباع الوصيّة التي أعطاها الله لإبراهيم قَبل أربعة آلاف سنة». ثم يدّعي المؤلف أن اليهود قليلاً ما يصابون بمثل هذا الداء بسبب الختان. ففي عام 1932 لم يكن يهودي واحد بين 1103 إصابة بسرطان الذكر، ومنذ ذلك الوقت لم يكتشف بين اليهود إلاّ ست حالات من هذا السرطان. ولنا عودة إلى هذا الموضوع في الجزء القادم عند مناقشة الأسباب الطبّية وراء الختان لنبيّن مدى المغالطات العلميّة التي يقع فيها مؤيّدو كل من ختان الذكور والإناث.

ويرفض الكتاب ما يقوله بعض اليهود بأن الختان هو علامة عهد بين الله وبين شعبه وليس وصفة طبّية. فقد يكون لله قصد غير الفائدة الصحّية، ولكن الواقع أن اليهود استفادوا من الختان صحّياً بطاعتهم أوامر الله. فحتى لو أننا لا نعرف الأسباب الحقيقيّة وراء أوامر الله، فإننا نستفيد من إطاعتها في الحياة وفي الآخرة.

ويرى الكتاب أنه يجب إجراء عمليّة الختان في اليوم الثامن كما جاء في التوراة وهذا ما أثبته العلم بسبب بلوغ فيتامين «ك» أعلى كمّية في هذا اليوم. فإذا أجريت هذه العمليّة قَبل هذا العمر، هناك خطر النزيف الدموي، وإذا أجريت متأخّرة، فإن هذه العمليّة تؤدّي إلى مضاعفات نفسيّة لأن الطفل يعتبرها تعدّ على جسده. ويضيف الكتاب: «إنه يجب أن نحترم مئات العاملين في المختبرات الذين توصّلوا بعد سنين طويلة بأن أفضل يوم هو اليوم الثامن لأجراء تلك العمليّة. ولكن في نفس الوقت الذي نهنئ به علم الطب، فإننا نستمع إلى صفحات التوراة التي تؤكد على ضرورة الختان

في اليوم الثامن. وهذا اليوم الثامن لم يختاره عبقري في علم الإحصاء بل اختاره خالق الفيتامين «ك». وهنا المؤلف يقدّم معلومات طبّية مغلوطة إذ إن فيتامين «ك» لا يظهر في جسم الطفل قَبل سن 15 يوم وليس قَبل 8 أيّام. كما أن الختان في هذا العمر يمثل خطراً إضافيّاً بسبب التصاق الغلفة بالحشفة عامّة، ممّا يتطلب سلخها مع ما ينتج عن ذلك من نزيف كما سنرى في الجدل الطبّي. ولذلك من المفضّل إجراء الختان بعد سن الثالثة أو الرابعة عندما تكون الغلفة منفصلة عن الحشفة طبيعيّاً. ونحن نرى بأنّه يجب ترك الولد دون ختان إلا في الحالات المرضيّة النادرة جدّاً عندما يصعب مداواتها.

ب) رفض معارضي ختان الذكور للتفسير الحرفي

تصدّى لهذه الآراء المسيحيّة المتزمّتة معارضو الختان ومن بينهم القس وعالم النفس الأمريكي «جيم بيجيلو» الذي يرفض التفسير الحرفي للتوراة. فهو يقول بأنه إذا كان من الضروري إجراء عمليّة الختان طاعة لأمر إلهي توراتي، فلا بد أيضاً من طاعة جميع أوامر الله التي جاءت في التوراة كالتي تخص الأكل والتي يخالفها جميع المسيحيّين في الغرب. والتوراة تقول: «ولا تأكلوا شيئاً من الجيف، وإنّما تعطيها للنزيل الذي في مدينتك، فيأكلها أو تبيعها للغريب، لأنك شعب مقدّس للرب إلهك» (تثنية 21:14). ويتساءل: كيف يمكن أن يمنع الله «شعبه» من أكل الجيف، بينما يسمح به للنزيل والغريب؟ أضف إلى ذلك كل قواعد الطهارة بخصوص الأم وابنها والتي تعتبر اليوم منافية للذوق والأخلاق ولقاعدة المساواة بين الرجل والمرأة.

ويشدّد المؤلف على أنه لا يريد الاستهزاء بالتوراة، بل يريد أن يوضّح أن قواعد التوراة مرتكزة على اعتبارات رمزية وإطاعة. فليس فيها أي اعتبار طبّي يتماشى مع المعلومات الطبّية الحديثة. فالحُكم على شيء أنه نجس أو طاهر من قِبَل الله يقصد منه تعليم درس في الطاعة الرمزية من قِبَل شعب معيّن وفريد لأوامر الله.

ويشير المؤلف إلى أن الختان كما جاء في التوراة هو ختان رمزي ولا يمكن بأي حال أن نقارنه مع ما يجري اليوم. ولذلك لا يمكن أن نستخلص منه أيّة فائدة علميّة كما يدّعي البعض في أيّامنا. وإن كان من الضروري إتباع وصايا الله كما جاءت في التوراة، فيجب بالأحرى عدم إجراء الختان كما يقوم به رجال الدين اليهود اليوم والذي لا يتفق مع تعاليم التوراة.

ثم يتساءل المؤلف لماذا ترك الله شعبه مدّة أربعين سنة في الصحراء دون ختان (سفر يشوع: الفصل 5)؟ فإن كان الختان ضرورة صحّية، لما كان الله قد عرّض شعبه في الصحراء لهذا الوضع ولكان فرض عليهم الختان هناك. ثم كيف يمكن أن يترك الله الشعب المسيحي لمدّة عشرين قرنا دون ختان معتبراً هذه الممارسة «لا شيء» حسب قول القدّيس بولس (1 قورنتس 19:7)؟ هل يمكن أن يعرّض الله المؤمنين كل هذه المدّة للمخاطر الصحّية لعدم الختان بينما نعتبر نحن أن الكتب المقدّسة موحاة من الروح القدس؟ ويختم المؤلف قوله: «منطقياً، لا يمكنك أن تنتقي حسب رغبتك. فعليك أن تعتبر أن قوانين الكتاب المقدّس اليهودي الذي أنزل من إله حكيم هي كلها قوانين طبّية أو أنها شيء آخر. وإذا ما نظرنا لتلك الأوامر التي ناقشناها سابقاً، يظهر أن غاية الله لم تكن إيحاء معلومات طبّية من خلال قوانينه، بل لتشكيل شعب خاص على الأرض».

ونحن إذ نتفق مع المؤلف بأن التوراة ليست كتاب طب، نختلف معه في اعتبار الشعب اليهودي «شعب خاص على الأرض». ونحن نرى أن التوراة هو كتاب كغيره من الكتب يحتوي على الغث والسمين في كل ما هب ودب وعلى تعليمات مخالفة للأخلاق ولا تتفق لا مع المعطيات العلميّة في زمننا ولا مع مبادئ حقوق الإنسان. فلا داعي في نظرنا لكل هذا الدوران واللف في تبرير التوراة.

الفصل الثالث
الختان في الفكر الديني الإسلامي

1) الختان في القرآن

أ) سكوت القرآن عن ختان الذكور والإناث

رأينا في القسمين الأوّلين أن الكتب المقدّسة اليهوديّة والمسيحيّة تكرّس صفحات طويلة حول ختان الذكور ولكن لا ذكر فيها لختان الإناث. فما هو موقف القرآن من ختان الذكور والإناث؟

بعد التحرّي، وجدنا أنه لا يوجد أي ذكر لختان الذكور أو ختان الإناث في القرآن. فكلمة «ختان» بذاتها لم ترد بتاتاً فيه بأي شكل من أشكالها. وكل ما نجده هو كلمة «أغلف» في نصّين على لسان اليهود للتعبير عن «غلف القلب» وليس عن «غلف الجسد». ولم يفسّر أحد من المسلمين هذين النصّين، لا قديماً ولا حديثاً، بأنهما يعنيان الختان أو يبرّرانه. وهذان النصان هما:

«ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البيّنات وأيّدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون. وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون» (البقرة 2: 78-88).

«فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلاّ قليلاً» (النساء 155:4).

وأصل عبارة «قلوبنا غلف» في التوراة. فأرميا يقول: «اختتنوا للرب وأزيلوا غلف قلوبكم يا رجال يهوذا وسكان أورشليم لئلاّ يخرج غضبي كالنار فيحرق وليس من مطفئ بسبب شر أعمالكم» (أرميا 4:4).

ونشير هنا إلى أن القرآن ذكر إبراهيم 69 مرّة ويعتبره «أسوة حسنة» (الحشر 4:60)، ولكنه لم يتكلم بتاتاً عن ختانه كما تفعل التوراة.

ب) تفسير آيات من القرآن لتأييد ختان الذكور

لم يقتنع الفقهاء والمؤلفون المسلمون قديماً وحديثاً أن القرآن لم يتكلم عن الختان، تلك العادة الواسعة الانتشار، خاصّة وأن القرآن يقول: «ما فرّطنا في الكتاب من شيء» (الأنعام 38:6)؛ «ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين» (النحل 89:16)؛ «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي» (المائدة 3:5). ولذلك حاولوا البحث عن آيات قد تسعفهم فوقع اختيارهم على عدد منها تنتمي إلى ما يسمّى بـ»الآيات المتشابهات»، ففسّروها بحيث تتفق مع اتجاههم المؤيّد لختان الذكور هي:

«وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهن قال إني جاعلك للناس إماماً قال ومن ذرّيتي قال لا ينال عهدي الظالمين» (البقرة 124:2).

«ثم أوحينا إليك أن اتبع مِلة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (النحل 123:16).

«صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون» (البقرة 2: 138).

لا ذكر في هذه الآيات لموضوع الختان. ورغم ذلك فقد استنتج منها مؤيّدو ختان الذكور أنه واجب على المسلم. فكيف توصّلوا إلى هذه النتيجة؟ باختصار شديد يمكن أن نقول إن المؤيّدين حاولوا تفسير عبارة «وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات» بأن الله ابتلى إبراهيم بالختان. وبما أن المسلم ملزم بإتباع «مِلة إبراهيم»، فعليه إتمام الختان كما أتمّه إبراهيم. ثم فسّروا عبارة «صبغة الله» بأنها تعني الختان. ولكن هذا التفسير لم يلقَ إجماعاً بين الفقهاء. هذا ما سوف نراه في النقطتين التاليتين.

«وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات»

لم يتفق المفسّرون على رأي واحد في تفسير معنى «الكلمات» في آية البقرة 124:2 السابقة الذكر. فهذا الطبري (توفى في 923) على سبيل المثال يقول إن الابتلاء بمعنى الاختبار. ثم يضيف:

«وكان اختبار الله تعالى ذكره إبراهيم اختباراً بفرائض فرضها عليه وأمر أمره به، وتلك هي الكلمات التي أوحاهن إليه وكلفه العمل بهن امتحاناً منه له واختباراً ثم اختلف أهل التأويل في صفة الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم نبيّه وخليله».

ومن تلك التأويلات:

«أبتلي إبراهيم بعشرة أشياء هن في الإنسان سُنّة: الاستنشاق وقص الشارب والسواك ونتف الإبط وقلم الأظفار وغسل البراجم والختان وحلق العانة وغسل الدبر والفرج».

والمهم في الأمر أن مؤيّدي ختان الذكور تمسّكوا بتفسيرهم للـكلمات بأنها تعني الختان. أي أن الله ابتلى إبراهيم بالختان فأتمَّه. وبما أن المسلمين مأمورون بإتباع مِلة إبراهيم، فعلى المسلمين أن يختتنوا أسوة بإبراهيم.

وهكذا يكون ختان إبراهيم هو أساس الختان عند المسلمين. وقصّة ختان إبراهيم جاءت في الفصل السابع عشر من سفر التكوين في التوراة كما رأينا سابقاً. وبما أن الفقهاء المسلمين يعتبرون التوراة محرّفة، فلا يرجعون لما جاء فيها، بل يعتمدون على الأحاديث النبويّة التي تتكلم عن ختان إبراهيم نذكر منها:

- عن أبي هريرة أن النبي محمد قال: «اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن ثمانين سنة، بالقدوم». ولهذا الحديث صيغة أخرى عن أبي هريرة أن النبي قال: «اختتن إبراهيم عليه السلام وهو ابن مائة وعشرين سنة ثم عاش بعد ذلك ثمانين سنة». ويقول ابن حجر (توفى عام 1449) في تعليقه على هذا الحديث إن إبراهيم قد اختتن وهو ابن مائة وعشرين سنة. ورأى البعض أنه اختتن وهو ابن ثمانين سنة. وإن ختانه كان بالقدوم. وقد اختلفوا ما إذا كان هذا القدوم مكان، قيل قرية بالشام أو بقرب حلب، أو آلة النجارة أو الفأس. والراجح أنه الآلة. ويذكر قولاً عن بن رباح: «أمر إبراهيم بالختان فاختتن بقدوم فاشتد عليه فأوحى الله إليه أن عجّلت قبل أن نأمرك بآلته فقال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك».

- عن أبي هريرة أن النبي محمد قال: «ربط إبراهيم عليه السلام عورته وجمعها إليه، فحد قدومه وضرب بقدومه بعود معه، فذب بين يديه بلا ألم ولا دم».

- عن ابن عبّاس أن النبي محمد سُئل: من أختن لآدم؟ قال: اختتن بنفسه. قال: ومن اختتن بعد آدم؟ قال: إبراهيم خليل الرحمن. قال: صدقت يا محمّد.

- عن علي أن النبي محمد قال: «إن الله عز وجل بعث خليله بالحنيفيّة، وأمره بأخذ الشارب وقص الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة والختان».

هذه أهم الأحاديث التي جاءت في ختان إبراهيم عندما كان عمره 80 أو 120 سنة. ولكن هناك روايات أخرى تقول بأن إبراهيم قد ختن وعمره 30 أو 70 أو 130 سنة.

ويعتقد المسلمون أن إبراهيم هو أوّل من اختتن. وأساس هذا الاعتقاد حديث ينقله مالك (توفى عام 795) في موطأه: «كان إبراهيم أوّل الناس ضيّف الضيف وأوّل الناس اختتن وأوّل الناس قص الشارب وأوّل الناس رأى الشيب. فقال يا رب ما هذا فقال الله تبارك وتعالى وقار يا إبراهيم فقال يا رب زدني وقاراً». وهذا القول يناقض الحديث النبوي السالف الذكر الذي يقول بأن آدم هو أوّل من اختتن. كما أن هناك من يعتقد أن إبراهيم قد ولد مختوناً مع عدد آخر من الأنبياء بفضل من الله. فقد سئل علي من خلق الله تعالى من الأنبياء مختوناً فقال: خلق آدم مختوناً، وولد شيت مختوناً وإدريس ونوح وإبراهيم وداود وسليمان ولوط وإسماعيل وعيسى وموسى ومحمّد. وهذا الاعتقاد أخذه المسلمون عن اليهود.

وللشيعة رواية خاصّة حول ختان إبراهيم. فقد سئل الصادق (توفى عام 765) عن ختان إبراهيم نفسه بقدوم على دن فقال: «سبحان الله! ليس كما يقولون كذبوا على إبراهيم» وأضاف:

«إن الأنبياء كانت تسقط عنهم غلفتهم مع سررهم في اليوم السابع. فلمّا ولد لإبراهيم من هاجر عيّرت سارة هاجر بما تعيّر به الإماء فبكت هاجر واشتد ذلك عليها. فلمّا رآها إسماعيل تبكي بكى لبكائها. ودخل إبراهيم فقال: ما يبكيك يا إسماعيل؟ فقال إن سارة عيّرت أمّي بكذا وكذا فبكت وبكيت لبكائها. فقام إبراهيم إلى مصلاّه فناجا فيه ربّه وسأله أن يلقي ذلك عن هاجر فألقاه الله عنها. فلمّا ولدت سارة إسحاق وكان يوم السابع سقطت عن إسحاق سرّته ولم تسقط عنه غلفته فجزعت من ذلك سارة. فلمّا دخل إبراهيم عليها قالت: يا إبراهيم ما هذا الحادث الذي حدث في آل إبراهيم وأولاد الأنبياء؟ هذا ابنك إسحاق قد سقطت عنه سرّته ولم تسقط عنه غلفته. فقام إبراهيم إلى مصلاه فناجا ربّه وقال: يا رب ما هذا الحادث الذي قد حدث في آل إبراهيم وأولاد الأنبياء وهذا ابني إسحاق قد سقطت عنه سرّته ولم تسقط عنه غلفته؟ فأوحى الله تعالى إليه أن يا إبراهيم هذا لمّا عيّرت سارة هاجر فآليت أن لا أسقط ذلك عن أحد من أولاد الأنبياء لتعيير سارة هاجر فاختن إسحاق بالحديد واذقه حر الحديد. قال فختنه إبراهيم بالحديد وجرت السُنّة بالختان في أولاد إسحاق بعد ذلك».

هناك إذاً روايات متناقضة حول معنى «الكلمات» التي ابتلى الله بها إبراهيم. كما أنه هناك اختلاف حول ما إذا كان إبراهيم قد ختن أم ولد مختوناً، واختلاف حول السن والآلة التي ختن بها. وهذه الروايات تتضمّن كثيراً من «الإسرائيليّات» وهي أساطير وروايات يرجعها الكتاب المسلمون اليوم إلى التراث الإسرائيلي. ويطالب البعض إعادة نشر كتب التفسير بعد تنقيتها منها. وهذا التفسير القديم لهذه «الكلمات» قد رفضها عدد من علماء الدين المسلمين المتأخّرين نذكر منهم الإمام محمّد عبده (توفى عام 1905). فقد جاء في تفسير المنار:

«قال الأستاذ الإمام عند إيراد قول المفسّر (الجلال) في تفسير الكلمات أنها الخصال العشرة: إن هذا من الجراءة الغريبة على القرآن. ولا شك عندي في أن هذا ممّا أدخله اليهود على المسلمين ليتخذوا دينهم هزؤاً، وأي سخافة أشد من سخافة من يقول: إن الله تعالى ابتلى نبياً من أجل الأنبياء بمثل هذه الأمور وأثنى عليه بإتمامها وجعل ذلك كالتمهيد لجعله إماماً للناس وأصلاً لشجرة النبوّة. وأن هذه الخصال لو كلف بها صبي مميّز لسهل عليه إتمامها ولم يعد ذلك منه أمراً عظيماً. والحق أن مثل هذا يؤخذ كما أخبره الله تعالى به، ولا ينبغي تعيين المراد إلاّ بنص عن المعصوم».

«صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة»

يقول القرآن: «صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون» (البقرة 138:2). يرى مؤيّدو ختان الذكور قديماً وحديثاً أن كلمة «الصبغة» تعني الختان. فالختان في رأيهم هي صبغة الله للمسلم التي تحل محل العمّاد الذي يصبغ به المسيحيّون أطفالهم بقصد الطهارة. يقول القرطبي (توفى عام 1273):

«إن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمّونه المعموديّة، ويقولون: هذا تطهير لهم. وقال ابن العبّاس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيّام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعموديّة فيصبغوه بتلك ليطهّروا به مكان الختان، لأن الختان تطهير. فإذا فعلوا ذلك قالوا: «الآن صار نصرانياً حقاً. فرد الله تعالى عليهم بأن قال «صبغة الله» أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام. فسمّي الدين صبغة استعارة ومجازاً من حيث تظهر أعماله وسمته على المتديّن، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب [...]. وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء».

ج) تصادم الختان مع فلسفة القرآن

أمام تفاقم الجدل حول ختان الذكور والإناث وضغط الأوساط الدينيّة المؤيّدة لهذه الممارسة، حاول معارضو ختان الذكور والإناث في أيّامنا الرد عليهم بالرجوع إلى القرآن حتى تكون الحجّة القرآنيّة مقابل الحجّة القرآنيّة ما دام القرآن هو المصدر الرئيسي للشريعة الإسلاميّة. فهم يقولون إن الختان يتصادم مع فلسفة القرآن الذي يؤكد في آيات عدّة على كمال خلق الله نذكر منها:

«خلق كل شيء فقدّره تقديراً» (الفرقان 2:25).

«أفحسبتم إنّما خلقناكم عبثاً» (النور 115:23).

«فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله» (الروم 30:30).

«وصوّركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيّبات» (غافر 64:40).

«وصوّركم فأحسن صوركم وإليه المصير» (التغابن 3:64).

«هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلاّ هو العزيز الحكيم» (آل عمران 6:3).

«الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحنك فقنا عذاب النار» (آل عمران 191:3).

«الذي أحسن كل شيء خلقه» (السجدة 7:32).

«وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار» (ص 27:38).

«لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم (التين 4:95).

«الله يعلم ما تحمل كل أنثى وما تغيض الأرحام وما تزداد وكل شيء عنده بمقدار» (الرعد 8:13).

«إنا خلقنا كل شيء بقدر» (القمر 49:54).

«يا أيها الإنسان ما غرّك بربّك الكريم الذي خلقك فسوّاك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك» (الانفطار 7:82).

«وقال [الشيطان] لاتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً ولأضلنهم ولأمنيهم ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعم ولأمرنهم فليغيّرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً» (النساء 118:4-119).

فإذا ما اعتبرنا أن ختان الذكور والإناث هو بتر عضو سليم لا يعوّض يلعب دوراً هامّاً في العلاقة الجنسيّة، فإنه علينا أن نعترف بأنه مخالف للقرآن ومرفوض منه. لا بل إن الآية الأخيرة تعتبر التعدّي على آذان الأنعم طاعة للشيطان. فكم بالأحرى التعدّي على سلامة جسد الإنسان؟! وهذا القول نجده عند رافضي ختان الإناث في أيّامنا. يقول محمّد سليم العوّا:

«قد نهى رسول الله (ص) عن تغيير خلق الله، وصح عنه لعن «المغيّرات خلق الله»، والقرآن الكريم جعل من المعاصي قطع بعض الأعضاء ولو من الحيوان، بل هو ممّا توعّد الشيطان أن يضل به بني آدم في أنعامهم وقرنه بتغيير خلق الله [يذكر هنا آية النساء 118:4-119]. والختان [للإناث] بصورته التي يجرى بها في مصر، وفي أجزاء أخرى من العالم الإسلامي، فيه تغيير خلق الله، ومن قطع بعض أعضاء الإنسان المعصومة ما لا يخفى. وإذا كان هذا في الحيوان من إضلال الشيطان فكيف يكون في حق الإنسان؟؟» (انظر الملحق 12)

اكتشف إذاً معارضو ختان الإناث في أيّامنا أنه يتصادم مع فلسفة القرآن التي تقول بكمال خلق الله. وهذا ما لا نجده بتاتاً عند الفقهاء القدامى. إلاّ أن معارضي ختان الإناث، بدلاً من تطبيق هذه الفلسفة أيضاً على ختان الذكور، استثنوه من منطقهم. لا بل برّروه معتبرين أن غلفة الذكر هو جلد زائد. وهذا جهل بالمعطيات الطبّية الحديثة (كما سنرى في الجزء الطبّي) بالإضافة إلى كونه استخفاف بحِكمة الخالق. ولم يشذ عنهم إلاّ عدد قليل جدّاً نذكر منهم الدكتورة نوال السعداوي التي تقول:

«إن الدين بمعناه العام هو الصدق والمساواة والعدالة والحب والصحّة لجميع الناس رجالاً ونساء. ولا يمكن أن يكون هناك دين يدعو إلى المرض أو تشويه أجساد البنات وقطع بظورهن. وإذا كان الدين من عند الله فكيف يمكن للدين أن يأمر بقطع عضو في الجسم خلقه الله؟ المفروض أن الله لا يخلق الأعضاء اعتباطاً. ولا يمكن أن الله يخلق البظر في جسد النساء ثم ينزل على الناس ديناً يأمرهم بقطع هذا البظر. فهذا تناقض خطير لا يقع فيه الله. وإذا كان الله قد خلق البظر كعضو حسّاس للجنس وظيفته الأساسيّة والوحيدة هي الإحساس بلذّة الجنس فمعنى ذلك أن الله قد أباح للنساء اللذّة الجنسيّة وأنها جزء من الصحّة النفسيّة. وعلى هذا فإن المرأة التي تحرم من اللذّة الجنسيّة تحرم من جزء من الصحّة النفسيّة ولا يمكن أن تكتمل صحّة المرأة النفسيّة بدون اكتمال لذّتها الجنسيّة».

وهذا النص يتكلم فقط عن ختان الإناث. وقد كشفت في السنين الأخيرة أن سكوتها عن ختان الذكور لم يكن بإرادتها، بل فُرِض عليها من قِبَل الرقابة. وأكدت رفضها لكل من ختان الذكور والإناث كما بيّنته في مقدمة هذا الكتاب.

وفي كتابه «البيان بالقرآن» يقول القاضي الليبي مصطفى كمال المهدوي إن القرآن لا يذكر الختان الذي هو عادة يهوديّة. وهو يرى أنه ليس في القرآن كله حرف واحد زائد أو ليس مسطوراً في الكتاب لحِكمة بالغة، فهذا كتاب الله الذي أتقن كل شيء وقال قوله الحق فيما خلق من شيء «ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار» (آل عمران 3:191) (انظر الملحق 22). وإن لم يتكلم المهدوي عن ختان البنات، فليس قبولاً منه لهذه العادة بل لأنها غير معروفة في بلده، وربّما لأن عادة ختان البنات لا يرجعها المسلمون إلى القرآن. وقد تعرّض المهدوي لحملة شعواء. فقد رفعت ضدّه دعوى لسحب الكتاب من الأسواق كما أتهِم بالردّة. وبعد محاكمة دامت عدّة سنين، أصدرت محكمة استئناف بنغازي حكماً متناقضاً في يونيو 1999 يبرّر ساحة المهدوي من تهمة الردّة ولكنه يمنع توزيع أو إعادة نشر كتابه.

كم يرفض جمال البنّا، الشقيق الأصغر للإمام حسن البنّا، كل من ختان الذكور والإناث لأنهما مخالفان لفلسفة كمال الخلق بالإضافة إلى مضارّهما. يقول:

«إن ما جاء في القرآن «لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم» (التين 59:4) يفنّد ما يدّعونه من أن الختان يصحّح نقصاً في طبيعة خلق الإنسان، وهو ما ينافي النص القرآني. لقد أراد الله للرجال والنساء أن يكونوا كما خلقهم [...]. وأنا مؤمن كل الإيمان أن من حق الرجال والنساء أن يعيشوا كما خلقهم الله وأن الله تعالى جعل كل الأعضاء «في أحسن تقويم»، بما في ذلك أعضاء الجهاز التناسلي للرجل والمرأة» (انظر الملحق 23).

2) الختان في السُنّة

يعتبر المسلمون عامّة السُنّة النبويّة المصدر الثاني للشريعة الإسلاميّة، وأن محمّداً معصوم من الخطأ على أساس شهادة القرآن له «وما ينطق عن الهوى» (النجم 3:53). والقرآن يقرّر ضرورة اللجوء إلى النبي محمّد: «وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا» (الحشر 7:59). ويعتمد مؤيدو ختان الذكور والإناث على السنة بسبب عدم ذكر الختان في القرآن. إلاّ أن المعارضين يرفضون هذا الأمر لأن ما جاء في السنة عن الختان متناقض وغير موثوق فيه.

أ) أحاديث الختان

سوف نجمع هنا ما جاء من أحاديث في كتب أهل السُنّة وأهل الشيعة مكتفين بذكر آخر راوي لها عن النبي محمّد. وقد رتبنا هذه الأحاديث حسب موضوعها.

أحاديث ختان إبراهيم

لقد ذكرنا في الفصل السابق الأحاديث الخاصّة بختان إبراهيم عند عرضنا لتفسير سورة البقرة 124:2: «وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات». لذا نعيد القارئ لما سبق.

أحاديث ختان النبي محمّد

يرى مؤيّدو ختان الذكور بأن على المسلم أن يختتن أسوة بالنبي محمّد. ولكن هناك عدّة روايات متضاربة يتناقلها الكتاب المسلمون القدامى حول ختان النبي محمّد أجملها الأنصاري (توفى عام 1596) كما يلي:

«وروي أن نبيّنا (ص) ولد مختوناً كثلاثة عشر نبياً، وأن جبريل ختنه حين طهّر قلبه، وأن عبد المطلب ختنه يوم سابعه ولم يصح في ذلك شيء على ما قاله جمع من الحفاظ ولم ينظروا لقول الحاكم إن الذي تواترت به الرواية أنه ولد مختوناً [...] ويمكن الجمع بأنه يحتمل أنه كان هناك تقلص في الحشفة فنظر بعض الرواة للصورة فسماه ختاناً وبعضهم للحقيقة فسماه غير ختان. وقال بعض المحقّقين من الحفاظ الأشبه بالصواب أنه لم يولد مختوناً».

وهكذا نرى أن المسلمين قد اختلفوا في قضيّة ختان النبي محمّد. ونشير هنا إلى أن المصدرين الأساسيين للسيرة النبويّة، وهما ابن إسحاق (توفى عام 767) وابن هشام (توفى عام 828)، لم يذكرا موضوع ختان النبي محمّد. وما كان لهذين المصدرين أن يسكتا عن حدث بمثل هذه الأهمّية. ونحن نميل إلى القول بأن النبي محمّد لم يختن إلاّ إذا كان هناك دليل على أنه ينتمي إلى الطائفة اليهوديّة التي هي الطائفة الوحيدة التي كانت تمارس الختان بصورة أكيدة في الجزيرة العربيّة. ولكن لنفرض أن النبي محمّد ختن، فهذا يعني أوّلاً وآخراً أنه وقع ضحيّة عادة قديمة مثله مثل السيّد المسيح والملايين من الأطفال الذين ختنوا عبر التاريخ وما زالوا يختنون دون رأفة ودون الأخذ برأيهم.

أحاديث ختان الحسن والحسين

هناك من يرى أن ختان الذكور واجب على المسلم لأن النبي ختن الحسن والحسين. وما كان ليفعل ذلك لو لم يكن واجباً. وهذا الأمر جاء ذكره في كتب الحديث الشيعية ولكن لا أثر له في كتب الحديث الستة ولا في مسند أحمد (توفى عام 855) ولا في موطأ مالك ولا في كتابي السيرة لابن إسحاق وابن هشام. وقد قال الشيخ جاد الحق (توفى عام 1996)، شيخ الأزهر، إن هذا الحديث غير مُسَّلم بثبوته (انظر الملحق 6). ورغم ذلك يعتمد الشيخ الطنطاوي عليه للتأكيد على ختان الذكور (انظر الملحق 9). ونشير إلى أن ختان الحسن والحسين في اليوم السابع يعني أنهما ختنا على الطريقة اليهوديّة. وهذا يناقض الأحاديث النبويّة الكثيرة التي تنهى عن التشبّه باليهود.

أحاديث الختان من سُنَن الفطرة

يعتمد مؤيّدو ختان الذكور على حديث نبوي يجعل من الختان أحد سُنَن أو خصال الفطرة. وهذه هي الأحاديث كما يستعرضها ابن حجر:

- «من السُنّة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار».

- «أربع من سُنَن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والنكاح».

- «خمس من سُنَن المرسلين: الحياء، والتعطر، والسواك، والحلم، والحجامة».

- «من الفطرة: المضمضة والاستنشاق والسواك وغسل البراجم والانتضاح».

- حديث عن عائشة: «عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء. قال مصعب: ونسيت العاشرة إلاّ أن تكون المضمضة».

نلاحظ من الأحاديث المذكورة أعلاه أن عدد سن الفطرة انتقل من ثلاثة إلى أربعة إلى خمسة إلى عشرة، وأن لا ذكر للختان فيها. ثم جاء المحدّثون فأحدثوا استبدال كلمة بكلمة. وهكذا نجد حديثاً عن أبي هريرة يقول فيه: «الفطرة خمس أو خمس من الفطرة: الختان والاستحداد ونتف الإبط، وتقليم الأظفار وقص الشارب». ثم جاء من استبدل كلمة الاستنشاق بكلمة الاستنثار، ومن استبدل غسل البراجم بالختان، ومن استبدل إعفاء اللحية بالفرق. وقد جمع ابن حجر خصال الفطرة في الأحاديث المختلفة فوجدها 16 خصلة. ويذكر قولاً لابن العربي بأن خصال الفطرة تبلغ ثلاثين خصلة. وقد ذكر موطأ مالك برواية ابن كثير حديث أبي هريرة السابق الذكر بالشكل الآتي: «خمس من الفطرة: تقليم الأظافر، وقص الشارب ونتف الإبط وحلق العانة والاختتان». وهذا الحديث لا وجود له في موطأ الإمام مالك برواية محمّد بن الحسن الشيباني. فقد أسقطه مالك مثل غيره من الأحاديث. فكيف يمكن الاعتماد عليه؟

يعتبر مؤيّدو ختان الذكور أن سُنَن الفطرة هي إشارة إلى الآية: «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله» (الروم 30:30). وفي تفسيره لمعنى سُنَن الفطرة، يقول ابن حجر: «والمراد بالفطرة [...] أن هذه الأشياء إذا فعلت اتصف فاعلها بالفطرة التي فطر الله العباد عليها وحثهم عليها واستحبّها لهم ليكونوا على أكمل الصفات وأشرفها صورة».

ومؤيّدو ختان الإناث يفهمون من حديث الفطرة أنه يأمر بختان الذكور وختان الإناث سواء «إذ لا مخصّص فيها للذكور عن الإناث». ولكن معارضو ختان الإناث يرون إمكانيّة التفريق بين ختان الذكور والإناث في الحُكم. فمن بين الخصال التي ذكرها الحديث قص الشارب، وهذا خاص قطعاً بالذكور دون الإناث.

الأحاديث الآمرة بختان الذكور

يعتمد مؤيّدو ختان الذكور على أحاديث نبويّة تأمر به. ويضيف الشيعة لهذه الأحاديث النبويّة أقوالاً لأئمّتهم.

- حديث عثيم بن كليب عن أبيه عن جدّه أنه جاء النبي فقال أسلمت، فقال النبي: «ألق عنك شعر الكفر» يقول: أحلق. قال: وأخبرني آخر أن النبي (ص) قال لآخر معه: «ألق عنك شعر الكفر واختتن». وقد قال ابن حجر إن سند الحديث ضعيف لا يثبت فيه شيء.

- حديث أبي هريرة (توفى عام 679) أن الرسول قال: «من أسلم فليختن وإن كان كبيراً». وهذا الحديث من مراسيل الزهري التي اعتبرها ابن قيّم الجوزيّة (توفى عام 1351) من أضعف المراسيل فلا تصح للاحتجاج (انظر الملحق 1).

- سئل النبي عن رجل أغلف، يحج بيت الله؟ قال: «لا، حتى يختتن». وقد قال عن هذا الحديث ابن المنذر (توفى عام 931) إن إسناد هذا الحديث مجهول لا يثبت.

- عن علي قال: وجدنا في قائم سيف رسول الله (ص) في صحيفة: «أن الأغلف لا يترك في الإسلام حتى يختن ولو بلغ ثمانين سنة». وقد ذكره البيهقي (توفى عام 1066) وقال: «هذا حديث ينفرد به أهل البيت عليهم السلام بهذا الإسناد».

- قول لجعفر الصادق (توفى عام 765): «المولود يعق عنه ويختن لسبعة أيّام».

ولأهل الشيعة أحاديث تأمر بالختان معتبرة بول الأغلف نجساً. وهذه الأحاديث لا وجود لها في كتب السُنّة الستة ولا في مسند ابن حنبل. نذكر من هذه الأحاديث:

- من طب الأئمّة عن النبي قال: «أختنوا أولادكم في السابع، فإنه أطهر وأسرع لنبات اللحم»، فقال: «إن الأرض تنجّس ببول الأغلف أربعين يوماً».

- عن جعفر الصادق أن النبي قال: «طهّروا أولادكم يوم السابع فإنه أطيب وأطهر وأسرع لنبات اللحم، وإن الأرض تنجّس من بول الأغلف أربعين صباحاً».

- عن جعفر الصادق عن النبي: «إن الأرض تضج إلى الله تعالى من بول الأغلف».

- قول لجعفر الصادق: «أختنوا أولادكم لسبعة أيّام فإنه أطهر وأسرع لنبات اللحم وإن الأرض لتكره بول الأغلف».

حديث «الختان سُنّة للرجال مَكرُمَة للنساء»

هناك حديث للنبي يقول: «الختان سُنّة للرجال مَكرُمَة للنساء». وهذا الحديث منقول عن الحجّاج بن أرطأة. ويقول القرطبي وابن جحر: «والحجّاج ليس ممّن يحتج به». وينقل أهل الشيعة أقوالاً لأئمّتهم تشبه هذا الحديث نذكر منها:

- قول لعلي: «لا بأس بأن تختتن المرأة، فأمّا الرجل فلا بد منه».

- قول لجعفر الصادق: «ختان الغلام من السُنّة وخفض الجواري ليس من السُنّة».

- عن المرادي أنه قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن الجارية تسبى من أرض الشرك فتسلم فيطلب لها من يخفضها فلا يقدر على امرأة. فقال: أمّا السُنّة فالختان على الرجال، وليس على النساء.

- قول لجعفر الصادق: خفض الجارية مَكرُمَة وليس من السُنّة ولا شيئاً واجباً وأي شيء أفضل من المَكرُمَة.

- قول لجعفر الصادق: الختان في الرجل سُنّة ومَكرُمَة في النساء.

وكانت العرب تعيّر من كانت أمّه تقوم بختان الإناث: «ابن مقطعة البظور». فكيف في هذه الحالة اعتبار ختان الإناث مَكرُمَة؟

أحاديث «إذا التقى الختانان»

يذكر البيهقي أن أبا موسى الأشعري أتى عائشة فقال: لقد شق علي اختلاف أصحاب النبي (ص) في أمر إني لأعظم أن أستقبلك به. فقالت: ما هو؟ كنت سائلاً عنه أمّك فسلني عنه. فقال لها: الرجل يصيب أهله ثم يكسل ولا ينزل؟ قالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل. وقد ذكر البيهقي هذا الحديث بأشكال مختلفة عن عائشة عن النبي، بعضها لا يذكر الختان. والعوّا يعتبر هذا الحديث هو «الحديث الصحيح الوحيد في كتبنا جميعاً فيما يتعلق بهذا الأمر». ولكنّه يرى أن

«لا حجّة في هذا الحديث الصحيح على ذلك. لأن اللفظ هنا جاء من باب تسمية الشيئين أو الشخصين أو الأمرين باسم الأشهر منهما، أو باسم أحدهما على سبيل التغليب. ومن ذلك كلمات كثيرة في صحيح اللغة العربيّة منها العُمَران (أبو بكر وعمر)، والقمران (الشمس والقمر) والنيِّران (هما أيضاً، وليس في القمر نور بل انعكاس نور الشمس عليه) والعشاءان (المغرب والعشاء) والظهران (الظهر والعصر)» (انظر الملحق 12).

ويضيف العوّا:

«لفظ الختانين [...] لا دلالة فيه على مشروعيّة الختان للإناث. والحديث وارد فيما يوجب الغسل وليس وارداً في أمر الختان أصلاً. ولا يبعد أن يقال: إنه حدّثهم على معهودهم قَبل الإسلام في إيقاع هذا الفعل بالمرأة، دون أن يتضمّن حديثه (ص) إباحة أصلاً».

وقد أُخِذ على حديث «إذا التقى الختانان» بأنه يقرّر قاعدة فقهيّة مرفوضة بالإجماع إذ لا يجب الغسل لمجرّد الالتقاء، بل لتغييب الحشفة في الفرج. وقد حاول البعض تفسير «التقى الختانان» بأنه كناية عن مغيب الحشفة. ولهذا السبب نحن نرى أن كلمة «الختانان» قد تكون قد فهمت غلطا بدلاً من «الختنان»، أي الزوجان. فيكون معنى الحديث: إذا التقى الزوجان في علاقة جنسيّة، يجب الغسل. وفي حالة فهم الحديث كما فهمه مؤيّدو ختان الإناث، فإننا لا نعرف كيف يمكنهم الاعتماد على حديث جاء في صور متناقضة.

روايتا «خاتنة الجواري»

هناك روايتان تحكيان لقاء النبي محمّد مع امرأة تختن الجواري. قي الرواية الأولى دون ذكر اسم امرأة أو مع ذكر اسم أم عطيّة أو أم أيمن أو أم طيّبة. والرواية الثانية ذكر فيها اسم أم حبيبة أو أم حبيب.

الرواية الأولى المشهورة برواية أم عطيّة

جاء في سُنَن أبو داوود (توفى عام 889): «إن امرأة كانت تختن بالمدينة. فقال لها النبي: «لا تُنهِكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل». وقد جاء في رواية أخرى «أشمّي ولا تُنهِكي». وقد انفرد بذكر هذا الحديث من كتب السُنّة الستة أبو داوود نقلاً عن محمّد ابن حسّان. كما أن مسند ابن حنبل لا يذكره. وقد علق أبو داوود عليه قائلاً: «ليس بالقوي، وقد روي مرسلاً. ومحمّد بن حسّان مجهول، وهذا الحديث ضعيف».

وهذا الحديث يتردّد كثيراً في كتابات الفقهاء القدامى والمعاصرين. وهم يفسّرونه بأن النبي أقر ختان الإناث في حدود عدم الإنهاك. فلو رأى فيه مضرّة لمنعه تماماً ولما نعته في حديث آخر بأنه مَكرُمَة. ويرد عليهم الرافضون بأنه، إن صحّت نسبته للنبي، لا يمكن الاستنتاج منه أنه يبيح ختان الإناث. بل إنهم يرون فيه وسيلة لمنع ختان الإناث. يقول العوّا:

«حديث أم عطيّة [...] بكل طرقه لا خير فيه ولا حجّة تستفاد منه. ولو فرضنا صحّته جدلاً، فإن التوجيه الوارد فيه لا يتضمّن أمراً بختان البنات، وإنّما يتضمّن تحديد كيفيّة هذا الختان إن وقع، وأنها (إشمام) وصفه العلماء بأنه كإشمام الطيب، يعني أخذ جزء يسير لا يكاد يحس من الجزء الظاهر من موضع الختان وهو الجلدة التي تسمّى «الغلفة»، [...]. ولا يمكن أن تتم - لو صح جوازها - على أيدي الأطبّاء العاديين فضلاً عن غير المتخصّصين في الجراحة من أمثال القابلات والدايات وحلاّقي الصحّة... الخ، كما هو الواقع في بلادنا وغيرها من البلاد التي تجرى فيها هذه العمليّة الشنيعة للفتيات» (انظر الملحق 12).

الرواية الثانية المشهورة برواية أم حبيبة

أوّل ذكر لهذه الرواية وجدناه في مقال لحامد الغوّابي الذي نشرته مجلة لواء الإسلام ولكنّه لم يذكر مصدرها. ثم كرّرها جاد الحق، شيخ الأزهر سويّة مع رواية أم عطيّة في فتواه الأولى عام 1981 دون ذكر مصادرهما. وكذلك فعل في فتواه الثانية عام 1994 مع ذكر مصادر عدّة ولكن دون تحديد أي من تلك المصادر تخص رواية أم حبيبة (انظر الملحقين 5 و 6). ونص هذه الرواية في فتوى جاد الحق هو كما يلي:

«إنه عندما هاجر النساء كان فيهن أم حبيبة، وقد عرفت بختان الجواري، فلمّا رآها رسول الله (ص) قال لها: يا أم حبيبة هل الذي كان في يدك. هو في يدك اليوم؟ فقالت نعم يا رسول الله. إلاّ أن يكون حراماً فتنهاني عنه. فقال رسول الله (ص): بل هو حلال، فأدنِ منّي حتى أعلمك. فدنت منه. فقال: يا أم حبيبة، إذا أنت فعلت فلا تُنهِكي، فإنه أشرق للوجه وأحظى للزوج».

ويرد محمّد سليم العوّا على من يستعمل رواية أم حبيبة: «هذا الحديث لا يوجد في كتب السُنّة وليس هناك ذكر فيها لامرأة بهذا الاسم كانت تقوم بهذا العمل. فكلامهم هذا لا حجّة فيه، بل لا أصل له» (انظر الملحق 12). وفي مقال آخر يقول إن هذه الرواية مُختلقة وأن «أم حبيبة [...] شخصيّة لا وجود لها في كتب تراجم الصحابة ولا في كتب الحديث التي ذكرت هذا الموضوع أصلاً». ومهما يكن من أمر المصادر التي اعتمد عليها جاد الحق وغيره، فإننا نجد رواية أم حبيبة في المصادر الشيعيّة. ولعّل هذا هو السبب الذي من أجله جهل أو تجاهل سليم العوّا وجودها.

كل من رواية أم عطيّة ورواية أم حبيبة تذكر قول النبي على عدم الإجحاف في القطع. إلاّ أنه هناك اختلاف شاسع بين الروايتين. فرواية أم عطيّة تكتفي بذكر عدم الإجحاف. بينما رواية أم حبيبة تضيف سؤالاً وجّهته الخاتنة إلى النبي عمّا إذا كان ما تقوم به حرام ينهاها عنه. فأجاب النبي: «لا بل حلال». يقول الغوّابي تأييداً لختان الإناث: «إن الرسول (ص) لم ينطق عن الهوى. ولو كان لم يقر أم حبيبة على عملها أو استنكر هذا العمل، فلماذا لا ينهاها ويقول لها: لا تختني الجواري؟ وهي قد طلبت منه (ص) أن ينهاها عنه إن كان حراماً. حقاً لئن كان الرسول لا يريده لنهى عنه بدلاً من أن يعلمها طريقة الختان الصحيح ويقول لها: لا تُنهِكي [...]. ولو كان الرسول (ص) يرى في الختان ضرراً وهو الذي يتلقّى الوحي من ربّه، وعلمه من لدنه علما، لنهى عنه نهياً صريحاً».

ب) المشككون في أحاديث الختان

أحاديث غير موثوقة مصدرها اليهود

استعرضنا سابقاً الأحاديث التي يعتمد عليها مؤيّدو ختان الذكور والإناث. وقد ذكرنا أيضاً الشكوك التي تحيط بكل حديث على حدة. وقد استنتج البعض أن هذه الأحاديث لا تصلح لتبرير الختان، ليس فقط ختان الإناث، بل أيضاً ختان الذكور.

فالشوكاني (توفى عام 1834)، بعد أن شكك في تفسير الآية «وإذ ابتلى إبراهيم ربّه بكلمات فأتمّهن» محيلاً «العلم في ذلك على الله سبحانه»، شكك أيضاً في جميع الأحاديث المؤيّدة للختان قائلاً: «الحق أنه لم يقم دليل صحيح يدل على الوجوب» (انظر الملحق 2). ويقول الإمام شلتوت (توفى عام 1964) معتمداً على الشوكاني:

«وقد خرجنا من استعراض المرويّات في مسألة الختان على أنه ليس فيها ما يصح أن يكون دليلاً على «السُنّة الفقهيّة»؛ فضلاً «الوجود الفقهي». وهي النتيجة التي وصل إليها بعض العلماء السابقين، وعبّر عنها بقوله: «ليس في الختان خبر يرجع إليه ولا سُنّة تتبع» وأن كلمة «سُنّة» التي جاءت في بعض المرويّات معناها، إذا صحّت، الطريقة المألوفة عند القوم في ذلك الوقت، ولم ترد الكلمة على لسان الرسول بمعناها الفقهي الذي عرفت به فيما بعد. والذي أراه أن حُكم الشرع لا يخضع لنص منقول، وإنّما يخضع في الذكر والأنثى لقاعدة شرعيّة عامّة: وهي أن إيلام الحي لا يجوز شرعاً إلاّ لمصالح تعود عليه، وتربو على الألم الذي يلحقه» (انظر الملحق 7).

ويرد السكري على المشككين في أحاديث الختان قائلاً:

«إن المرويّات التي جاءت في ختان الإناث إنّما هي في جانب الفعل. أمّا جانب الترك فلم يرد فيه دليل واحد لا بالتحريم ولا بالكراهيّة، وكل ما استدل به المانعون هي آراء شخصيّة بعيدة تماماً عن التشريع الإسلامي [...]. وهناك قاعدة فقهيّة عظيمة وهي: إن إعمال الكلام أولى من إهماله متى أمكن ذلك، والأصل في الكلام أن يدل على معنى يريد المتكلم إعلام السامع به. وقد وردت عدّة روايات عن الرسول (ص) في هذا. وقد قصد بها أن يعلم الخاتنة شعاراً من شعائر الإسلام، وقد أمكن ذلك بكثرة المرويّات فيه».

ورغم أن الاهتمام منصب عند الكتاب المسلمين المعاصرين على ختان الإناث إلاّ أننا نجد من يرفض أيضاً ختان الذكور معتبرين أن الأحاديث التي ذكرته هي من الإسرائيليّات.

فقد قام الكاتب المصري عصام الدين حفني ناصف بترجمة مختصرة لكتاب جوزيف لويس: «باسم الإنسانيّة»، وهو معارض أمريكي لختان الذكور، وعنون الترجمة: «الختان ضلالة إسرائيليّة». وكتب له مقدّمة أطول من الترجمة ذاتها عنونها: «بحث في الختان عند الأمم الإسلاميّة وأنه أثر من آثار الإسرائيليّات في الإسلام» (انظر الملحق 20). وقد نشر الكاتب المصري محمّد عفيفي تحليلاً مطوّل لهذا الكتاب في مجلة «الهلال» القاهريّة تحت عنوان: «مرشد الحيران في عمليّة الختان» (انظر الملحق 21). ومن الواضح من عنوان الكتاب الذي ترجمه عصام الدين ومن مقال محمّد عفيفي أنهما يعتبران ختان الذكور عادة يهوديّة تسرّبت إلى الطائفة المسلمة ككثير من العادات والروايات اليهوديّة قام بدسها اليهود الذين أسلموا والتي يطلق عليها لقب «الإسرائيليّات». وقد رأينا سابقاً موقف محمّد عبده ممّن فسّر «الكلمات» التي امتحن الله بها إبراهيم في الآية 124:2 بمعنى سُنَن الفطرة التي من بينها الختان. فهو يقول: «ولا شك عندي في أن هذا ممّا أدخله اليهود على المسلمين ليتخذوا دينهم هزؤاً». وقد ذكرنا كيف أن مصطفى كمال المهدوي اعتبر ختان الذكور أيضاً عادة يهوديّة لا تخص المسلمين، وهي تعبّر عن العقليّة اليهوديّة التي تعتقد بأن الله لا يميّز اليهود عن غيرهم إلاّ بعلامة الختان الخارجيّة (انظر الملحق 22).

وتجدر الإشارة هنا إلى أن لليهود سابقة تاريخيّة أخرى في محاولة نشر الختان. فقد رأينا كيف أن اليهود الذين أصبحوا مسيحيّين في القرون الأولى حاولوا جاهدين فرض الختان على الوثنيّين الذين تحوّلوا إلى المسيحيّة. ولكنّهم فشلوا في تلك المحاولة لأنهم لم يكونوا يمثلون وزناً كبيراً في الإمبراطوريّة الرومانيّة التي تمنع ممارسة الختان وتعاقب عليه. وقد تصدّى لمحاولتهم هذه القدّيس بولس لأنه رأى فيها صدّاً للوثنيّين عن دخول المسيحيّة. وإذا صحّت نظريّة «الإسرائيليّات»، فهذا يعني أن اليهود قد نجحوا في فرض الختان على المسلمين. ولا عجب في ذلك. فاليهود كانوا يُعتبرون الطبقة المثقّفة في المجتمع العربي في عصر النبي، فهم من «أهل الكتاب» على خلاف الوثنيّين العرب الأميين. والقرآن الكريم يحتوي على الكثير من المأثورات اليهوديّة المأخوذة عن التوراة ولكن بصورة مختزلة. وما كان للعرب الأميين وسيلة لفهم هذه المأثورات دون الرجوع إلى اليهود، خاصّة من أسلم منهم. ونذكر هنا على سبيل المثال كعب الأحبار (توفى عام 652)، وهو من كبار رجال الدين اليهود اليمنيين ومن كبار رواة الحديث عند المسلمين.

الرافضون للسنّة جملة وتفصيلاً

بالإضافة إلى المشككين في أحاديث الختان، هناك تيّار سُنِّي يرفض الاعتماد على السُنّة في تقرير الأحكام جملة وتفصيلاً. وهذا هو الموقف الرسمي لمعمر القذافي الذي لا يقبل الاحتكام إلاّ لنص القرآن. وعلى هذا الأساس أيضاً يرفض القاضي الليبي مصطفى كمال المهدوي ختان الذكور لأن القرآن لم يذكره ولأنه لا يعتد بالسُنّة في هذا