Site hosted by Angelfire.com: Build your free website today!

الحيوان والإنسان هو قدرة الإنسان في إعطاء معنى رمزي لأفعاله ممّا يجعل فهم تصرّفاته أكثر تعقيداً.

6) الحيلة والصوريّة

يقوم بعض الأفراد ببتر أنفسهم للحصول على فوائد ذاتيّة عبّر عنها مثل عربي قديم يقول «لأمر ما جدع قصير أنفه». ومن المعروف أن كثيراً من الأفراد يتصنّعون المرض أو يبترون أحد أعضائهم لجلب الشفقة أو للتسول، وهذا ما عبّر عنه المثل العامّي: «اقطع ايدك واشحد عليها». كما قد يكون القصد التهرّب من الجنديّة، وهو ما تعاقب عليه القوانين. وقد يُقصد بالبتر إغاظة الآخرين، كما يشير مثلان عامّيان كويتيان: «عاند أم عياله وقص أيره وخصيانه»؛ «عاند مرته وقص طيزه».

وهناك ظاهرة تسمّى «هوس العمليّات الجراحيّة». فبعض الأشخاص يتظاهرون بأنهم في حاجة لعمليّة جراحيّة ويقنعون الطبيب بأساليب تحايلية بإجراء تلك العمليّات. والمصابون بهذه الظاهرة يتعمّدون عرض جراحهم على الغير. وهناك من يتلذّذ بالنظر إلى تلك الجراح. وهناك ظاهرة موازية تدعى «هوس العمليّات الجراحيّة بالوكالة» مفادها افتعال ضرورة إجراء عملية بتر على الغير كما هو الأمر في الختان الذي عامة يتم على الأطفال دون سبب طبّي حقيقي.

7) التحليل النفسي لختان إبراهيم

قليلاً ما يتم إخضاع الأنبياء للتحليل النفسي بسبب القدسيّة التي تحيط بهم. ونحن نرى ضرورة إجراء تحليل نفسي لحادثة ختان إبراهيم التي أدّت إلى بتر الملايين من الأطفال، إذا ما أردنا الإقلاع عن هذه العادة. ونعتمد في تحليلنا هذا على نص التوراة الذي يتضمّن تفاصيلاً لا يذكرها القرآن.

كان إبراهيم، حسب التوراة، يعاني من حياة عائليّة مضطربة. فقد ترك أهله ورحل بعيداً عنهم (التكوين 1:12-4). وسلم زوجته سارة لفرعون ليمارس الجنس معها مدّعياً أنها أخته حتى ينجو من القتل ويحسن فرعون إليه (التكوين 10:12-20). وكانت سارة عاقراً ولم يأته منها إلاّ ولد في سن متأخّرة. وكان يشعر مراراً بأن روحاً يكلمه. فالروح هو الذي أمره بترك أهله (التكوين 1:12-4)، وختان نفسه ونسله وعبيده (التكوين 1:17-14)، وطرد امرأته الثانية هاجر مع ابنها (التكوين 12:21-13)، وتقديم ابنه إسحاق محرقة (التكوين 1:22-2). ولحسن الحظ، تراجع ذلك الروح عن مطلبه واكتفى بكبش بدلاً منه (التكوين 11:22-13). وقد توعّد هذا الروح بتدمير سدوم (التكوين 16:18-33). وعندما ظهر الروح ليطلب من إبراهيم تنفيذ أمر الختان، وقع إبراهيم على وجهه (التكوين 3:17). وكان عمره حينذاك 99 سنة. وتقول رواية يهوديّة أن إبراهيم وجد نفسه مختوناً بقرصة عقرب بعدما قام من وقعته. ولكن قد يكون وقوعه مغماً عليه بسبب قطعه غلفة قضيبه. وقد يكون ختانه بسبب شعوره بالذنب بسبب تصرّفاته وعلاقته المتوترة مع امرأته سارة. وبعد ختانه صار عنده شعور بالاعتزاز لأنه سيكون عنده نسل وأرض، كما وعده الروح الذي كان يكلمه.

وإذا ما حللنا هذه التصرّفات على ضوء ما شرحنا سباقاً، لرأينا فيها عوارضاً لمرض الفصام العقلي وهوس المبالغة. وقد يظن البعض أن عمر 99 سنة لم يكن ذو أهمّية إذ إن التوراة تحكي أن إبراهيم مات وعمره 175 سنة (التكوين 7:25). إلاّ أن التوراة تقول إن إبراهيم كان عندما بشّره الله بميلاد إسحاق «شيخاً طاعناً» (التكوين 11:18). وللعمر في تصرّفات البشر أحكام لا تخفى على أحد، لا ينجو منها لا الفلاّح الفقير ولا الملك القدير.

هذا وقد سألني كويتي: لماذا ختن إبراهيم نفسه؟ وأجاب هو عن هذا السؤال مستشهداً بالمثل العامّي الكويتي السابق الذكر: «عاند أم عياله وقص أيره وخصيانه»! أي أن الختان كان وسيلة من إبراهيم لإغاظة سارة العاقر التي كانت تختلق المشاكل مع هاجر. وأضاف كويتي آخر مستشهداً بالمثل الكويتي: «إبراهيم ما عليه شرهه». وقد سألته عن مغزى هذا المثل فأجاب في رسالة بتاريخ 14/12/1998:

«إذا كان أحد الأشخاص اسمه إبراهيم وارتكب خطأ، يلومه البعض - سواء في حضوره أم غيابه - قائلاً له أو عنه ما يلي: «إبراهيم ما عليه شرهه» بمعنى «ما عليه عتب»، وهذا المثل متداول في العالم العربي بأسره. وهذا المثل يذكرني بمثل آخر يحمل نفس المعنى. يقول المثل: «ليس على المجنون حرج». والمثل الأوّل بالتأكيد منسوب بالأصل إلى سيّدنا إبراهيم. وهذا أمر معروف للجميع».

نذكر هذا الخبر الأخير «على ذمّة الراوي». وإن أفتى علماء اللغة والتاريخ بصحّة نسبة هذا المثل الأخير إلى إبراهيم، فهذا يعني وجود فرق شاسع بين ما يعتقده العامّة عنه وبين تقديس رجال الدين اليهود والمسيحيّين والمسلمين له.

8) وسائل معالجة بتر الذات الشاذّة

رأينا أن السيّد المسيح قد شفى مجنوناً بإخراج الروح النجس منه. وحتى يومنا هذا يعالج رجال الديانات السماويّة ظاهرة الجنون بترديد الصلوات والآيات، وفي بعض الأوقات بتعذيب المريض جسديّاً. أمّا علماء طب النفس فإنهم يحاولون التصدّي لمثل هذه الظواهر بوسائلهم الخاصّة.

ومن بين تلك الوسائل ينصح علماء طب النفس منع من يعانون من مرض الهلوسة وعقدة الاضطهاد وعقدة الذنب الجنسي من قراءة الكتب المقدّسة التي تتحدّث عن البتر والتي قد تقدّم لهم تبريرات لتصرّفاتهم. وإذا كان القطع تعبيراً عن الرغبة في العلاقة الجنسيّة مع الأب والخوف منها أو بسبب علاقة مضطربة بين الأم والشخص خلال الطفولة، يجب لعب دور الأم وتوعية المريض وتثقيفه في مجال العلاقات الجنسيّة. وإذا كان القطع نتيجة لفقدان الأب، يجب محاولة لعب دور الأب. وفي حالة القطع الكبير، يمكن اللجوء إلى المهدّئات القويّة التي تقاوم الفصام العقلي والهوس والكآبة. ويجب أحياناً الحد من حرّية الشخص جسديّاً إلى أن يأتي الدواء أثره. وإن كان الشخص دون عمل يجب على الطبيب مساعدته لإيجاد عمل ليشغله عن نفسه، كما أنه يبعده عن محيط خطير. وهناك أيضاً إمكانيّة تغيير الجينات المسؤولة عن اضطراب عصبي بجينات سليمة، وإجراء عمليّات جراحيّة دقيقة على المخ للقضاء على الأجزاء المسؤولة عن الانفعالات. ولكن الطب النفسي ينظر إلى العمليّات الجراحيّة على المخ نظرة سيّئة وليس من المنتظر أن تستعمل لمداواة الذين يبترون أنفسهم.

9) تحوّل الشذوذ الفردي إلى تصرّف جماعي ثقافي

إذا ما تعرّض شخص لعمليّة بتر، بإرادته أو غصباً عنه، فإن هذا الحدث قد يبقى حدثاً معزولاً. ولكن قد يثير انتباه المجتمع ويصبح المبتور محل تبجيل، فيعدي غيره. وهكذا يتحوّل الحدث الفردي إلى ظاهرة جماعيّة. فينتقل الإيمان الفردي بسماع أوامر إلهيّة تأمر ببتر الجسم كما حدث مع إبراهيم إلى إيمان جماعي بوجود مثل تلك الأوامر وبضرورة ممارسة هذا البتر كسمة اجتماعية وثقافيّة مُهمّة. وهذا ما يطلق عليه اسم «الجنون المعدي»، الذي يطبّقه علماء النفس على الختان بالذات. وتدريجيّاً تصبح العادة تبريراً لتصرّفات الأفراد والمجتمع. والخروج عن العادة يعتبر خروجاً عن المجتمع له عواقبه الخطيرة. فإتباع الجماعة راحة. وهناك عدّة أمثلة عاميّة تعبّر عن أهمّية التشابه بين أعضاء المجتمع نذكر منها: «في بلد العوران اعور عينك»؛ «إذا إنجن أهل بلدك شو بنفعك عقلك»، «حط حالك بين التيوس وقول يا قطاع الروس».

ونشوء العادة في المجتمع واستمرارها يكون بسبب عدوى المحيط وتأثير ديني وجنسي وعائلي وقَبلي وسياسي واقتصادي سوف نراها في الفصول القادمة.

الفصل الثاني
الختان وتأثير المحيط

رأينا في الفصل الأوّل أن ظاهرة البتر الفردي الشاذ تنتقل بعدوى المحيط. وهذا ينطبق على الختان كظاهرة جماعيّة ثقافيّة. فهناك العدوى العائليّة، والعدوى الاجتماعية، والعدوى المهنيّة، وعدوى الثقافة الغالبة. فمن طبع الإنسان أن يتأقلم مع محيطه ويتأثر به. وهناك مثل عامّي يقول: «اربط الحمار عند الحمار، يا بعلمه الشهيق أو النهيق».

1) الختان والتأثير العائلي

للعائلة دور هام في تشكيل طباع وأجسام أفرادها الذين يصعب عليهم الإفلات من سلطة الأب، وفي بعض الأحيان من سلطة الأم. وأحد الأسباب الهامّة التي من أجلها يمارس الختان في الولايات المتحدة هو التشابه بين الأب والابن. فقد بيّنت دراسة أجريت على أهالي 124 طفل ولدوا في مستشفى «دينفير»، أن 90% من الآباء المختونين قرّروا ختان أولادهم، وكان السبب الرئيسي هو الرغبة في أن يكون الابن مثل الأب. بينما 23% فقط من الأباء غير المختونين قرّروا ختان أولادهم.

وكثيراً ما تستعمل حجّة التشابه كغطاء لأسباب أكثر حساسيّة لا يريد المرء البوح بها. فالأب هو الذي يرى ابنه عارياً وليس العكس. والرغبة في تشابه الطفل مع أبيه هو في حقيقته حجّة من الأب لحماية نفسه وليس لصالح الابن. فإذا لم يختن الأب ابنه، فهذا إقرار من الأب بأنه يعتبر نفسه ضحيّة وأنه يعاني من مشاكل جنسيّة. ولأن الأم لا تعاني من عقدة الضحيّة هذه، فإنها أقل ميلاً من الأب إلى تأييد ختان الابن.

وتأثير عامل التشابه في ختان الإناث واضح من دراسة مصريّة رائدة أجريت على 500 طبيب وطبيبة من العاملين في وزارة الصحّة وكليات الطب في جامعات القاهرة وعين شمس والأزهر لمعرفة موقفهم من ختان الإناث. فقد بيّنت الدراسة تأثير الموقف العام للأسرة التي نشأ فيها الأطبّاء إذ يزيد الميل لمعارضة ختان الإناث بين أبناء الأسر التي لم تختن بناتها، بينما يزيد الميل لتأييده بين الأسر التي ختنت بناتها.

2) الختان والتأثير الاجتماعي

بعد أن استعرض المؤلف المغربي عبد الحق سرحان الأسباب النفسيّة والاجتماعية التي من أجلها يتم الختان، يرى أن سبب هذه العمليّة بسيط. وهو الرغبة أو الضرورة للتصرّف مثل الآخرين: «هذا ما جرى عليه الأمر دائماً وعلى جميع الأطفال، فلماذا لا نجريه على أطفالنا؟»

وفي المجتمع الأمريكي يرى الأهل أن ترك الطفل غير مختون قد يجعله موضع سخرية من المختونين أو قد يترك عنده شعوراً بالشذوذ، خاصّة في مجتمع يتسامح نوعاً ما مع العرى ويسمح للأطفال والشباب أو حتى الرجال بالسباحة والاستحمام سوياً في حالة عرى بعد الرياضة وفي الخدمة العسكريّة.

والرغبة في التشابه تلعب دوراً كبيراً في تثبيت ختان الإناث. ففي المجتمعات التي تمارسه ينظر إلى البنت غير المختونة نظرة استهجان، وتُعيَّرها رفيقاتها، ممّا يدفعها إلى طلب الختان بذاتها. والمجتمع السوداني يضع غير المختونات ضمن ثلاث خانات: الأطفال والمجنونات والعاهرات وبناتهن. وتشير دراسة ميدانيّة أجريت في الصومال أن الفتيات اللاتي يتركن بلا ختان لمدّة طويلة يطالبن تكراراً بختانهن لأن عدم ختانهن يجعل منهن منبوذات في محيطهن ولا يمكنهن أن يجدن زوجاً إلاّ خارج مجتمعهن. وقد صرّحت إحدى الممرّضات غير المختونات بأنها تعيش مأساة وتفضّل ألف مرّة الموت على حالة النبذ التي تعيشها.

ولا تتوقّف الرغبة في التشابه على المظهر بل تمتد إلى الآثار. فعلماء النفس يؤكدون أن الشخص الذي أُنتهك صغيراً سوف ينتهك غيره، وكل شخص يقتل أو يجرح غيره إنّما يفعل ذلك مدفوعاً بعوامل داخليّة وقع تحت تأثيرها في صغره. وقد أخبرت امرأة سودانيّة الكاتبة «لايتفوت كلاين» بأن المرأة التي تشعر بالحرمان تصب غضبها عندما تكبر على الصغار لتحرم بناتها وبنات بناتها ممّا حرمت منه وتجعل من أزواجهن رجالاً تعساء انتقاماً لما عانته من زوجها.

3) الختان والتأثير المهني

اكتسب الختان في بعض المجتمعات صفة العادة ليس فقط في الأوساط العامّة، بل أيضاً في الأوساط الطبّية. فمهنة الطب كغيرها من المهن تهتم ببقائها في الوجود، فتأخذ مواقف تتفق والمجتمع وتتلوّن بثقافته وتدافع عن قيمه حتى لا تفقد مصداقيّتها. فالطبيب يقوم بإجراء الختان دون حاجة لمبرّر أو يختلق المبرّرات التي لا تصمد أمام النقد، من بينها القول بأن الطفل لا يتألم من الختان، وأن الغلفة والبظر عضو زائد لا فائدة فيه. وإذا ما نقصته الحجّة العقليّة، يلجأ إلى الاتهامات بمعاداة الأديان والساميّة والخيانة القوميّة كما سنرى لاحقاً.

ويشار إلى أن الطبيب الذي يجري الختان لأوّل مرّة يقوم بهذه العمليّة تحت إشراف طبيب مدرّب أكبر وأكثر خبرة منه. ولذا فهو يتخلى عن مسـؤوليّة اتخاذ القرار ذاتيّاً وينفذ العمليّة طاعة لأوامر الطبيب المدرّب. ونادراً ما يرفض طبيب حديث التخرّج الرضوخ لمدرّبه. وبعد أن يقرّر الطبيب عمل العمليّة، يصعب عليه التراجع عن قراره لأن ذلك يعني أنه يستنكر ما قام به. فيوهم نفسه أنه لا يؤلم الطفل. ويشير طبيب أمريكي أن كثير من زملائه يتخوّفون من معارضة الختان لأن ذلك يعني حرمانهم من ممارسة الطب. فلن يجدوا طبيباً متمرّساً يساندهم. وبعض الأطبّاء يفقدون عملهم فعلاً لأنهم يرفضون ممارسة الختان.

وإن كان ما ذكرناه سابقاً عن العدوى المهنيّة ينطبق على كثير من الأطبّاء، إلاّ أن بعضهم كفوا عن اختراع تبريرات مفتعلة مفضّلين الاعتراف بغلطهم بعدما أن أوقعوا كثيراً من الضحايا الأبرياء. ومن هؤلاء طبيب الأطفال الشهير «بنجامين سبوك» الذي صرّح في مقال صدر عام 1989 تحت عنوان «الختان ليس ضروريّاً»: «لو أن الحظ أسعفني ورزقت ابناً آخر، فإني سوف أفضل ترك قضيبه الصغير سليماً».

4) الختان وتأثير الثقافة الغالبة

عامة يقوم الناس بالتشبّه بمن له الغلبة. وهذا التشبّه قد يكون إرادياً من قِبَل المغلوب أو مفروضاً عليه من قِبَل الغالب. وهذه الظاهرة نجدها في كل من الختان ذي الطابع الديني وغير الديني. فقد فرض اليهود ختان الذكور على عبيدهم وعلى الشعوب التي سيطروا عليها. وقد بينّا سابقاً أن المسلمين قد أخذوا عن اليهود عادة ختان الذكور.

وقد لعب انتشار الإسلام دوراً مماثلاً لدور اليهوديّة في ممارسة الختان. وهناك معلومات تفيد بأنه يتم خطف الأولاد والبنات من قبيلة الدنكا السودانيّة ويباعون كعبيد للعرب الذين يفرضون الختان عليهم ضمن محاولة إجبارهم على التحوّل إلى الإسلام. ويذكر تقرير للأمم المتحدة لعام 1992 أن مسلمين ومجاهدين، بعضهم من أفغانستان والسعوديّة، قد أجروا بصورة روتينيّة عمليّات ختان وحشيّة ومشوّهة بلا مبرّر طبّي للجنود الصربيين من البوسنا. ويتحوّل إلى الإسلام كثير من أفراد الجاليات الأسيويّة الفقيرة العاملة في السعوديّة والتي يرتبط مصيرها الاقتصادي ببقائها في تلك الدولة. وتحوّلها للإسلام هو أسهل الطرق للبقاء هناك. والختان هو شرط من شروط هذا التحول.

وقد أدّى تواجد الجيش الأمريكي في كوريا الجنوبيّة إلى انتشار ختان الذكور هناك بنسبة 91%. وهناك معلومات تفيد أن القواعد العسكريّة الأمريكيّة في إيطاليا وألمانيا تؤثر على انتشار ختان الذكور هناك. وتأثير الأمريكيّين يظهر أيضاً على الرياضيين الإيطاليين الذين يتمرّنون في الولايات المتحدة إذ يعود عدد منهم مختونين.

الفصل الثالث
الختان والدين

الدين هو أحد عوامل البتر الفردي الشاذ، ويلعب كذلك دوراً هامّاً في ممارسة الختان على المستوى الجماعي. فالأساطير الدينيّة هي المرجع الأساسي للختان. والختان يدخل ضمن التضحيات التي تفرض طاعة للآلهة. كما أن الدين يستعمل عامل مساعد لمبرّرات الختان.

1) الأساطير الدينيّة كمفسّر لنشأة الختان

تكشف الأساطير عن اعتقادات جماعيّة مضى عليها الزمن وتساعد في تفسير نشوء العادات البشريّة وقد تؤثر في بقائها.

يسيطر البتر على الفكر الأسطوري في حضارة الشرق الأوسط. ومن بين تلك الأساطير قصة الإله «أوزيريس» الذي قطعه «سيث»، فحاولت الإلهة «إيزيس» أن تجمع جسمه ولكنّها لم تجد قضيبه الذي ابتلعته ثلاث سمكات تمثل قوى الشر. وهذه الأسطورة قد تكون أساس ختان الذكور عند المصريّين القدامى. وللقبائل البدائيّة الإفريقيّة أساطير تتعلق بالختان لا تختلف في نظر أتباعها عن الأسطورة التوراتيّة التي تتكلم عن عهد قطعه الله مع إبراهيم بأن يكثر نسله ويعطيه أرض كنعان مقابل إجرائه عمليّة الختان. وهذه الأسطورة ما زالت مسيطرة على عقول اليهود والمسلمين ويروح ضحيّتها ملايين من الأطفال.

2) الختان أحد التضحيات للآلهة

رأينا كيف يقوم البعض ببتر أعضائهم اعتقاداً منهم بأن ذلك يهدئ غضب الآلهة ويؤهلهم لقبول النعم الإلهيّة. وهذه الاعتبارات تنتقل من الفرد إلى المجتمع وتأخذ شكل طقس ديني جماعي تسيطر عليه فكرة التقدمة والتضحية التكفيريّة التي قد تأخذ أشكالاً مختلفة. وكما يتفنّن الإنسان في إعداد طعام ضيوفه فقد تفنّن أيضاً في إعداد ما يرضي الآلهة. فقدّم لها الأطفال والحيوانات محارق. وقد أعتبِرت الأعضاء الجنسيّة واهبة الحياة الطعام المفضّل عند الآلهة. فبعض القبائل الإفريقيّة تضحي بالخصية اليسرى، وبعضها بالخصية اليمنى، ولا يحق لرجل أن يقرب امرأة إلاّ إذا تمّت هذه العمليّة عليه.

ومن عادات المصريّين القدامى إلقاء دمية على شكل فتاة جميلة يزيّنوها كعذراء يوم عرسها ويلقونها في النهر. وكانوا يعتقدون أنهم إن لم يفعلوا ذلك فإن النهر قد يغضب عليهم ويكف عن الإنعام عليهم بفيضانه. وكان موسم وفاء النيل هو الوقت المناسب لختان البنات. فتقوم الدايات بختانهن في ذلك الوقت. وكانوا يحتفظون بتلك الأجزاء التي تقطع من الأعضاء الجنسيّة للفتاة ويربطونها بخيط حول عنقها. وفي يوم الاحتفال بعيد فيضان النيل، كانوا يلقون بتلك الأجزاء في مجرى النهر معتقدين أن الفتاة التي لا تفعل ذلك تبقى عانساً بغير زواج، أو أنها إذا تزوّجت فإنها لا تنجب أطفالاً على الإطلاق، أو حتى إذا أنجبت أطفالاً فإن أولئك الأطفال لا يعيشون أو يموتون صغاراً. وهذا الأمر ينطبق على الأولاد أيضاً.

ونجد عادة إرضاء الآلهة بتضحية بشريّة في رواية إبراهيم الذي عزم أن يقدّم ابنه محرقة لإلهه «يهوه» لولا أن ملاكاً منعه من إتمام مخططه (التكوين، فصل 22). وقد استمر اليهود في ممارسة المحارق البشريّة من بعده. ويظن أن الختان هو بديل للمحارق البشرية.

3) الدين عامل مساعد لمبرّرات الختان

قد يكون للتعاليم الدينيّة أثر مباشر في انتشار عادة ما. ومثالاً للتأثير المباشر النص التوراتي الذي ينقل لنا أمر «يهوه» لإبراهيم بختان نفسه ونسله من بعده، واعتقاد أكثر المسلمين بأن ختان الذكر من صميم تعاليم «الإسلام»، واعتقاد بعضهم أن ختان الإناث أيضاً ينتمي إلى تلك التعاليم. ولكن قد يكون هناك تأثير غير مباشر مبني على القاعدة التي تقول: «ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب». وهذه بعض الأمثلة على ذلك فيما يخص انتشار ختان الذكور والإناث بين المسلمين رغم أن القرآن لم ينص عليهما ورغم أن الأحاديث النبويّة المتعلقة بهما ضعيفة:

- يعتقد المسلمون بأن التعاليم الدينيّة تفرض على الفتاة أن تصل إلى الزواج عذراء. وحتى تتمكن من الحفاظ على عفتها، يعتقد بعضهم أنه لا بد من الحد من شهوتها من خلال ختانها. وعليه يصبح الختان ضرورة دينيّة.

- تفرض التعاليم الإسلاميّة دفع مهر لصحّة الزواج. وبما أن قيمة المهر مرتبطة ببكارة البنت، وبما أن البنت لا يمكنها، في اعتقاد بعضهم، الحفاظ على بكارتها دون ختانها على الطريقة الفرعونيّة، لذلك رأى البعض في الختان الفرعوني جزء من تعاليم الدين الإسلامي.

- تسمح التعاليم الدينيّة الإسلاميّة للرجل بالزواج من أربع نساء في آن واحد. وبما أنه من غير الممكن أن يرضي جميع هؤلاء النساء، وفي نفس الوقت لا تسمح التعاليم الدينيّة لهؤلاء النساء بالبحث عن اللذّة خارج إطار العلاقة الزوجيّة، لذلك فإن الرجل يلجأ لختان الإناث اعتقاداً منه أنه بهذه الوسيلة يحد من شهوتهن.

- يعتقد بعض المسلمين بأن العادة السرّية مخالفة للتعاليم الدينيّة. وبما أن الختان في اعتقادهم يساهم في الحد من هذه العادة، لذلك يلجأون للختان كوسيلة للحد منها.

الفصل الرابع
الختان وكبح النزوات الجنسيّة والأعداد للزواج

رأينا كيف أن الجنس هو أحد أسباب بتر وتشويه الجسم على المستوى الفردي الشاذ. والجنس يلعب دوراً مهماً أيضاً في التصرّفات ذات الطابع الجماعي الثقافي ومن بينها ختان الذكور والإناث.

1) ختان الذكور وسيلة من وسائل الكبح الجنسي

بالإضافة إلى العقاب والصلاة والصوم والحجاب والحيطان، لجأ الإنسان إلى وسائل مباشرة للكبح الجنسي بالتعدّي على الأعضاء الجنسيّة ومنع وظيفتها. فقام عند الذكور بفرض حزام العفة أو شبك الغلفة أو بترها جزئيّاً أو كلياً أو بتر القضيب والخصيتين معاً أو منفصلتان. وقد رأينا في الجزء الطبّي كيف أن «فيلون» وابن ميمون وتوما الأكويني وابن العسّال وابن قيّم الجوزيّة قد اعتبروا ختان الذكور ببتر الغلفة وسيلة لكبح الجنس والحد من اللذّة. وقد تم اللجوء إلى هذه العمليّة لاحقاً لمكافحة العادة السرّية في الغرب. وقد أخذ الكتاب المسلمون في أيّامنا يردّدون هذه الحجّة متناسين أنها قد فقدت قيمتها عند أصحابها ذاتهم. ونعيد القارئ لما قلناه في الجزء الطبّي.

2) ختان الإناث وسيلة من وسائل الكبح الجنسي

قام الإنسان عند الإناث بتصرّفات مماثلة لما قام به عند الذكور ففرض حزام العفة، وشبك الفرج أو اخاطته، وبتر الغلفة والبظر والأشفار جزئيّاً أو كلياً، معاً أو على انفصال.

وقد كانت عمليّة شبك الفرج تتم سابقاً ليس بخياطته كما هو الأمر اليوم، ولكن بامرار حلقة من معدن في شفري الفتاة يتم لحامها بالنار عند الحداد. وأمّا النساء المتزوّجات، فقد كان يمر في شفريها حلقة مجهّزة بقفل يحتفظ زوجها بمفتاحه. ولقد لجأ لهذه العادة الفقراء ممّن لم يكن في إمكانهم اقتناء الخصيان للحفاظ على حريمهم. وهكذا يكون شبك الفرج في حقيقته حزام عفة على الطريقة البدائيّة للمعدمين، له نفس هدف حزام العفة: منع العلاقة الجنسيّة.

وشبك الفرج واسع الانتشار في بعض الدول الإفريقيّة، وخاصّة السودان والصومال وجيبوتي وإرتريا والحبشة وجنوب مصر بنسبة تزيد عن 90%. ويطلق عليه اسم «الختان الفرعوني» أو «الختان السوداني». وتقدّر نسبة مشبوكات الفرج بـ 15 إلى 20% من المختونات في العالم. والذين يمارسونه يرون فيه وسيلة لحماية بكارة بناتهم، ممّا يتيح لهم الحصول على مهر مرتفع عند زواجهن. وفي تلك المجتمعات تقوم المرأة برعاية الماشية بعيداً عن مكان سكناها. وهكذا يلعب شبك الفرج دور حزام العفة لمنع اغتصابها. والمرأة التي لم يشبك فرجها تعتبر عاهرة. والبكارة هناك لا تقاس بوجود غشاء البكارة، بل بضيق فتحة الفرج. ففي الصومال يتم دحرجة حبّة ذرة أو سمسم على خياطة الفرج. فإذا انزلقت دون توقّف، أعتُبِر الختان ناجحاً، وأمّا إذا توقّفت في الثقب، شُق الفرج وأعيد تضييق فتحته.

3) الختان كعمليّة تمييز بين الذكور والإناث

يعتقد المصريّون القدامى بأن آلهتهم مزدوجة الجنس، ذكوري وأنثوي. وعلى غرارها يحمل الرجل في طيّاته معالم أنوثيّة تتمثل في غلفته، والمرأة معالم ذكوريّة تتمثل في بظرها. وحتى تتم ذكورة الرجل وأنوثة المرأة يجب إجراء الختان لهما لبتر هذه المعالم الخارجة عن طبيعتها. ولم نجد أي صدى لهذه الاعتقادات في كتابات الفقهاء المسلمين القدامى. إلاّ أنها ما زالت منتشرة عند نساء مصر. ففي إحدى الأبحاث الميدانيّة أكدت 5% منهن أن هذه العمليّة تجرى للفتاة من أجل اكتمال أنوثتها وإزالة العضو القبيح. تقول ماري أسعد أن المرأة في مصر تعاير زميلتها التي لم تجر عليها هذه العمليّة وتشبّهها بالرجل، ممّا يجعلها غير صالحة للزواج. وتشير الدكتورة سهام عبد السلام إلى اعتقاد بأن الختان يجعل الفتاة أكثر أنوثة: «فيقول الناس أن الفتاة التي لا تمارس عليها هذه العمليّة تتحوّل إلى ذكر». ونجد هذه النظرية أيضاً عند القبائل الأفريقية.

هناك صدى لنظريّة ازدواج الجنس عند فرويد والكاتبة الفرنسيّة «اليزابيت بادانتير». إلاّ أن عالم الجنس، الدكتور جيرارد تسفانج، ينتقد هذه النظريّة التي برّرت بتر الأعضاء الجنسيّة، ويرى فيها تعبيراً عن الغباء المطبق. فالإنسان يولد إمّا ذكراً أو أنثى كما هو الأمر عند كل الحيوانات اللبوءة، ولا يوجد إلاّ عدد قليل جدّاً من الشواذ في هذا المجال.

4) الختان كعمليّة تجميليّة جاذبة جنسيّاً

أ) الختان كتجميل للأعضاء التناسليّة الذكوريّة

يعتبر اليهود والمسلمين الغلفة نجسة يجب قطعها. وليس في مؤلفات اليهود والمسلمين القديمة أيّة إشارة إلى جمال القضيب المختون، ولكن إذا ما تكلمت مع اليهود والمسلمين، تسمعهم يقولون بأن القضيب المختون أجمل من القضيب غير المختون. وتعرض المجلاّت الخليعة عامّة صوراً لذكور مختونين. فحشفة المختون تكون ظاهرة حتى في حالة استرخاء القضيب، ويكون جلد القضيب مشدوداً عند الانتصاب بسبب قطع جزء منه. وهناك مجموعة ألمانيّة تدعو للختان لاعتقادها أن القضيب المختون أجمل من القضيب غير المختون.

ويرفض معارضو ختان الذكور الإدّعاء بأن الختان يعطي صبغة جماليّة للقضيب، معتمدين في ذلك على معايير النحّاتين والرسّامين في العصر اليوناني والروماني وعصر النهضة الأوروبيّة. فقد صوّر ونحت هؤلاء القضيب في حالة غير مختونة، حتى عندما يكون الشخص قد ختن. فرسموا الطفل يسوع في حضن أمّه غير مختون، رغم معرفتهم أنه كان مختوناً. وكذلك نحت «ميكيل انجلو» (توفى عام 1564) تمثال داود العاري غير مختوناً. فهؤلاء الفنّانون أرادوا التعبير عن جسم كامل وليس جسم مبتور. فقد كانوا ينظرون إلى الختان كعمليّة تشويه.

وإذا ما نظرنا إلى مخاطر عمليّة الختان التي تفرض في بعض الأحيان على الطبيب ترقيع جلد بدلاً من الجلد الذي يزال، أو تترك ندباً في الجلد، أو تشوّه الحشفة، فلا يمكننا اعتبار الختان عمليّة تجميل بل عمليّة تشويه لخلق الله.

ب) الختان كتجميل للأعضاء التناسليّة للإناث

اعتبر الرحّالة الإسكتلندي «جيمس بروس» في القرن الثامن عشر أن الختان يجري في إفريقيا لأسباب جماليّة. فهو يقول:

«أن البظر الذي سترته الطبيعة تماماً في مناخنا، يكبر ويطول في وسط إفريقيا بصورة لا تصدّق إلى درجة أنّه لا يوحي إلاّ بالاشمئزاز وقد يؤدّي إلى مساوئ أخرى تخالف مقاصد الطبيعة. وبما أن المشرّعين في كل زمان وبلاد قد أعطوا اهتماماً كبيراً للإنجاب، تم الحُكم على ضرورة بتر جزء يضر بسبب تضخّمه المشوّه. ولذلك يخضع كل المصريّين والعرب وكل الأمم في وسط إفريقيا والأحباش [...] بناتهم للختان [...] قَبل أن يصلن إلى سن الزواج».

لم تثبت الأبحاث العياديّة التي أجريت في إثيوبيا في مراكز مراقبة الإنجاب هذه النظريّة. ولكن هذا لا يمنع وجود حالات تشويه خلقي استثنائية بالإضافة إلى تفاوت أحجام الأعضاء الجنسيّة من سيّدة إلى أخرى كما هو الأمر في أعضائها الأخرى، لا يتعدّى حجمها نطاقاً معيّناً. والجمال في حجم الفرج يبقى أمراً نسبياً. ولو اكتفى الكتاب المسلمون الحاليّون بتأييد ختان الإناث في حالات التشويه الخلقي الشاذّة، لما كان أحد يلومهم. والمشكلة تكمن في أنهم يؤيّدون إجراء الختان على جميع النساء دون استثناء، معتبرين ذلك صبغة جماليّة. ويرفض معارضو ختان الإناث اعتبار هذه العمليّة عمليّة تجميليّة.

5) الختان كإعداد وشرط للزواج

رأينا فيما سبق أن مؤيّدي الختان اعتبروه وسيلة للتمييز بين الذكور والإناث وعمليّة تجميليّة. وهم بذلك يعتبرونه إعداد للزواج وشرط من شروطه.

أ) ختان الذكور كإعداد وشرط للزواج

يقول المؤلف اليهودي «فيلون» إن المصريّين كانوا يختنون كل من الذكر والأنثى عندما يبلغون سن الرابعة عشر، أي عندما يبدأ «الخطيب» بالإمناء و «الخطيبة» بالعادة الشهريّة.

وقد ذكرنا سابقاً كيف أن اليهود يحرّمون زواج اليهوديّة من غير المختون. ونحن نجد صدى لهذا الفكر اليهودي عند بعض الفقهاء المسلمين. فهم يحرّمون زواج المسلمة من مسلم غير مختون، كما يحرّمون على المسلم غير المختون الزواج من الذمّية ويرفضون ولايته في تزويج نفسه أو في تزويج إحدى نسائه. وما زال بعض الكتاب المسلمون يعيدون علينا هذه القاعدة ويسمحون للمرأة المسلمة التي تتزوّج من مسلم غير مختون أن تطلب من القاضي طلاقها منه.

ويذكر عبد الوهاب بوحديبة: «تقبّلت تونس في السنوات الأخيرة احتمال زواج المسلمة بغير المسلم، والغريب أن ما استهجنه البعض انحصر في كيفيّة مضاجعة رجل غير مختن لامرأة مسلمة».

ب) ختان الإناث كإعداد وشرط للزواج

أفادت دراسة أجريت على قرية دير البرشا ذات الأغلبيّة المسيحيّة التي تخلت عن ختان الإناث أن أكثريّة الناس كانوا يرفضون مساعدة الغير في عدم ختان بناتهم وكان سبب رفضهم هذا ما يلي: «كل واحد يحكم على بيته. لنفرض أنني نصحت أم بعدم ختان بنتها ثم لم تتزوّج فماذا سيكون موقفي؟» وهناك من يعيد عليك قصّة الفتاة التي أعادها زوجها إلى أهلها بعد الزواج لأنها لم تكن مختنة.

وفي السودان، تلقّن الفتاة منذ صغرها عبارات تفيد بأن لا أحد سيقبل الزواج منها إن لم تختن. وتلبس استعداداً لختانها أجمل ثيابها وحليّها وتحنّي كفيها وقدميها وتتعطر، ويطلق عليها في بعض الأحيان لقب «العروسة». وتشير المؤلفة «لايتفوت كلاين» بأن أحد زعماء القرى السودانيّة قد طالب الناس هناك بإجراء «ختان السُنّة» بدلاً من «الختان الفرعوني». ولكنّهم رفضوا ذلك لأن الرجال لا يقبلون الزواج بامرأة غير مغلقة الفرج.

وتقول الصوماليّة «واريس ديري»: «إن المرأة غير المختونة تعتبر غير طاهرة، يسيطر عليها الجنس ولا يمكن تزويجها. في ثقافة بدويّة كالتي تربّيت فيها لا مكان للعزباء. وتظن الأمّهات أن من واجبهن عمل كل ما يمكنهن حتى يكون لبناتهن أكبر حظ تماماً كما تفعل العائلات الغربيّة التي تصر على إرسال فتياتهن إلى أفضل المدارس».

الفصل الخامس
الختان والنظام القَبلي والطائفي

بعد الانتهاء من عرض علاقة الختان بالجنس والزواج ننتقل إلى دائرة أوسع وهي علاقة الختان بالنظام القَبلي الطائفي، وهما نظامان متحدان في التاريخ إذ إن القبيلة عامّة تجتمع حول دين واحد وعادات واحدة، تربط بين أفرادها عصبيّة واحدة. والختان يساعد في تقوية هذه العصبيّة بشكل أو آخر. فقد يكون علامة انتماء وتمييز وتعارف، وعلامة عهد وتضامن، ومرحلة تدريب وامتحان، وأخيراً وسيلة لدفع العنف وحماية المجتمع.

1) الختان كعلامة انتماء وتمييز وتعارف

تلجأ الدول اليوم إلى البطاقة الشخصيّة وجواز السفر للتعرّف على مواطنيها. أمّا القبائل، فكانت تلجأ في الماضي إلى وضع علامة جسديّة مميّزة، وما زالت تلك العلامة تستعمل في التعرّف على ملكيّة الحيوانات.

وأوّل مرّة تذكر فيها التوراة الختان تعتبره علامة «عهد» بين الله وإبراهيم ونسله. ولحاملي هذه العلامة حقوق حدّدتها التوراة ما زلنا نعاني منها حتى يومنا، أي الحق في اغتصاب أرض فلسطين: «سأجعل عهدي بيني وبينك [...]. وأعطيك الأرض التي أنت نازل فيها، لك ولنسلك من بعدك، كل أرض كنعان، ملكاً مؤبّداً [...]. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يختتن كل ذكر منكم [...]. وأي أغلف من الذكور لم يختن في لحم غلفته، تفصل تلك النفس من ذويها، لأنه نقد عهدي» (التكوين 17: 2، 8، 10، 14).

ورغم أن كثيراً من اليهود لا يؤمنون بالتوراة ككتاب منزل، فإنهم يستمرّون في إجراء الختان، ليس لوازع ديني، بل لخوفهم من عدم الانتماء للجماعة اليهوديّة. فيعتبر الختان جزءاً من الهويّة اليهوديّة. ويعتبر تحدّي الختان تحدّياً لبقاء اليهود ذاته.

ونجد هذا الأمر أيضاً في المجتمعات الإفريقيّة التي تمارس ختان الذكور والإناث. فتعتبر تلك المجتمعات غير المختون غريباً وغير مقبولاً.

2) الختان كعلامة عهد وتضامن

ذكرنا أن التوراة اعتبرت الختان علامة «عهد». ويسمّيه اليهود بالعبريّة: «بريت ميلا»، أي «عهد القطع». والعرب تقول: «قطعت عهداً»، بمعنى «عاهدت»، وقد تكون هذه العبارة مأخوذة من اليهود. فالختان إذاً تعهّد يؤخذ على الأعضاء التناسليّة من خلال قطعها. ويشير موسى ابن ميمون إلى طبيعة الختان كعهد وتضامن، ليس بين الله واليهود فقط، بل بين اليهود فيما بينهم. يقول:

«وفي الختان أيضاً عندي معنى آخر وكيد جدّاً وهو أن يكون أهل هذا الرأي كلهم، أعني معتقدي توحيد الله، لهم علامة واحدة جسمانيّة تجمعهم، فلا يقدر من ليس هو منهم يدّعي أنه منهم، وهو أجنبي، لأنه قد يفعل ذلك كي ينال فائدة، أو يغتال أهل هذا الدين. وهذا الفعل لا يفعله الإنسان بنفسه، أو بولده إلاّ عن اعتقاد صحيح. لأن ما ذلك شرطة ساق أو كيّة في ذراع، بل أمر كان مستصعباً جدّاً جدّاً. معلوم أيضاً قدر التحابب والتعاون الحاصل بين أقوام كلهم بعلامة واحدة وهي بصورة العهد والميثاق. وكذلك هذه الختانة هي العهد الذي عهد إبراهيم أبونا على اعتقاد توحيد الله. وكذلك كل من يُختن إنّما يدخل في عهد إبراهيم والتزام عهده لاعتقاد التوحيد: لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك (سفر التكوين 7:17). وهذا أيضاً معنى وكيد مثل الأوّل في تعليل الختان، ولعله أوكد من الأوّل [أي تقليل النكاح]» (انظر الملحق 25).

ويذكر «موريس بلوخ» أن قبائل «ميرنيا» في «مدغشقر» تعتبر الختان طقس بركة يتم من خلاله نقل قوّة الأجداد للأطفال. وفي هذا الطقس المعقّد جدّاً والمليء بالرموز يجتمع كثير من الأقارب تعبيراً عن وحدتهم فيعدّون ملابسهم ويطبخون ويأكلون سويّة. ويتم طقس الختان في الركن الشرقي الشمالي للبيت الذي يعتبر مكاناً مقدّساً عندهم مثله مثل قبر الأجداد، توضع فيه نباتات متعدّدة ترمز إلى القوّة والاتحاد من بينها القرع الذي يطلق عليه اسم «ألف رجل». وهذه العبارة اختصار لمثل يقول: «ألف رجل لا يموتون في يوم واحد». والاتحاد يعني هنا التواصل بين الأجداد وفروعهم. ويقوم رجلان وامرأة قَبل عمليّة الختان برفع صلوات لله وللأجداد طالبة منهم الحضور لإعطاء بركتهم للجميع وخاصّة للمختون. ثم يقوم الداعون بمباركة الطفل والحضور برش الماء. ويقوم رجل مسن ببلع غلفة الطفل بين شريحتي موز. وقد اغتنم ملك مدغشقر في نهاية القرن الثامن عشر معنى التضامن الذي يحيط بالختان في ذلك البلد. فوضع قوانين تفرض الختان على جميع الأطفال كل سبع سنين في زمن محدّد، ويشارك الملك في طقس الختان. وقد خلق هذا الطقس رباطاً بين الدولة والناس الذين كان عليهم أن يدفعوا ضريبة للملك عن كل ختان. فتحوّل الختان هكذا من نظام يربط بين أفراد القبيلة إلى نظام يربط الناس بالسلطة الحاكمة المركزيّة. وكان الختان شرطاً للقبول في الجيش أو وظيفة حكوميّة. وبتأميمه الختان أوجد الملك لنفسه شرعيّة قوميّة في أعين الناس. وقد وضع الاستعمار الفرنسي حداً لطقس الختان الملكي بهدف كسر الرابطة بين الشعب وبين سلطاته الوطنيّة، ولكن طقس الختان ذاته على المستوى القَبلي ما زال مستمرّا في أيّامنا في مناطق الأرياف رغم معارضة رجال الدين المسيحيّين.

3) الختان كمرحلة تدريب وامتحان

يمر الإنسان في المجتمع «الحضري» بمراحل مختلفة: مرحلة الطفولة، ثم مرحلة التعليم في المدارس والجامعات والمراكز المهنيّة. وإذا انتمى إلى هيئة مثل نقابة الأطبّاء أو المحامين، فإنه يمر بمرحلة تدريب وامتحان قَبل قبوله فيها. ونجد نظاماً مشابها في المجتمع «البدائي» الإفريقي حيث يمر الذكور والإناث في أطوار مختلفة من الطفولة إلى الصبا، ثم إلى البلوغ. وللوصول إلى هذا الأخير يجب الخضوع إلى طقس يطلق عليه «طقس التدريب» يتضمّن عند بعض القبائل ممارسة الختان الذي تصاحبه شعائر دينيّة.

أ) طقس تدريب وختان الذكور

تمارس بعض القبائل هذا الطقس كل سنتين أو أربع سنوات، أو عندما يتوفر عدد كاف من الذكور للمشاركة فيه، أو عندما يكون الموسم جيّداً. وكان هذا الطقس يجرى سابقاً في سن الزواج. ومع تطوّر العادات، يحدث أن يتم ختان شاب وأبيه في نفس الوقت. ويحدّد الوقت ساحر القبيلة، الذي يلعب دور رجل الدين. وفي بداية الطقس يتم ذبح ثور أو ديك أو دجاجة تكريماً للآلهة. وخلال طقس التدريب يتم عزل المتدرّبين مدّة تتراوح بين أسبوع وعدّة أشهر، يتعلمون خلالها أسرار الحياة والطقوس والعادات ومعاني الأقنعة التي تلبسها القبيلة في المراسيم الدينيّة. كما يقومون بإجراءات تطهيريّة مثل حلق شعر الرأس. ويخضعون لعدّة امتحانات جسديّة جماعيّة تتضمّن الصبر على النار وقرص النمل والجلد وشرب البول وأكل البراز.

وفي يوم الختان، يقوم المتدرّبون بغسل ذكورهم في مياه النهر حسب الطقس الديني. وفي قبيلة «ناندي»، عليهم أن يعترفوا بكل علاقاتهم الجنسيّة مع امرأة مختونة. ثم يدهن رجل عجوز شعر الشباب بخليط من الحليب والصلصال لإبعاد الأرواح الشرّيرة عنهم التي قد تهاجمهم مغتنمة ضعفهم بعد العمليّة.

وبعد انتهاء طقس التدريب، يتم إدماج المختونين في الحياة الاجتماعية. وفي قبائل مختلفة، تنظم بعد الختان عروض يحمل فيها المختونون أقنعة ذات رمز جنسي مثل قضيب كبير يرقصون به. وتشجّع القبائل الشباب في التعبير عن ميولهم الجنسيّة وتعطيهم حرّية جنسيّة واسعة. وتعتبر النساء العلاقة الجنسيّة مع مختون جديد علاقة مقدّسة.

ب) طقس تدريب وختان الإناث

تنظم قبائل «ناندي» هذا الطقس كل أربع سنوات ونصف إذا ما تم جمع عدد كاف من الفتيات التي تناهز أعمارهن 12 سنة. وتنظم قبائل «مالينكي» هذا الطقس كل سنتين ويتم على فتيات يتراوح أعمارهن بين 13 و15 السنة. وتلعب العرّابة في قبائل «كيكويو» دوراً كبيراً في إعداد الفتاة لطقس التدريب. فهي التي تراقب بكارتها وتحرص على أن تجرى العمليّة قَبل 20 يوماً على الأقل من حيضها. ويجب على الفتاة الاعتراف بخطاياها عندها. وإذا اقترفت خطايا، فيجب أن تبحث العرّابة لها عمّن يطهّرها.

ويتم طقس التدريب في مكان يحدّده الساحر. ويصاحب هذا الطقس احتفالات وغناء، وتتسابق الفتيات فيه للبحث عن الشجرة المقدّسة. وأوّل فتاة تجد هذه الشجرة تتلقّى أكثر طلبات زواج.

وعشيّة إجراء الختان تشعل قبيلة «ناندي» النار المقدّسة قرب شجرة زرعت خصّيصاً لهذه المناسبة. وتقوم الخاتنة بجني نوع من نبات يشبه القرّاص تفرك به بظر البنت حتى ينتفخ. وفي اليوم التالي، يوضع على النار خشب الشجرة المقدّسة. ثم تأخذ الخاتنة بمعلقة قبساً من النار وتضعها على بظر البنت بينما ترفع النساء أصواتهن بالغناء لتغطية صراخ البنت. ففي هذه القبيلة يتم الختان بواسطة الكي.

هذا وترفض الحركات النسائيّة إطلاق تعبير طقس التدريب على ختان الإناث كما يفعله مختصّو علم الأعراق أو الصحفيّون لأن مثل تلك التسمية تمويه لعمليّة تعذيب ليس إلاّ، ووسيلة للسكوت عنها وعدم فضحها.

ولن نطيل على القارئ في عرض طقوس التدريب في القبائل البدائيّة التي يتم خلالها ختان الذكور والإناث. وكل ما نود أن يعيه هو أن تلك الطقوس لها معنى ديني لا يقل عن المعنى الديني الذي يسبغه اليهود أو المسلمين على الختان عندهم. وإن كان لليهود والمسلمين حق في إدّعاء أن ختان الذكور جزء هام من معتقدهم الديني، فالقبائل الإفريقيّة لها حق مماثل في الإدّعاء بأن ختانها هو أيضاً جزء من معتقداتها ونظامها. ونحن نرى أن الطقس الديني، مهما كانت طبيعته، لا يبرّر التعدّي على حق الأفراد في سلامة جسدهم.

4) الختان كوسيلة لدفع العنف وحماية المجتمع

فسّر علماء النفس عمليّات البتر الشاذّة كبديل للانتحار، ولاحظوا أن الشخص الشاذ يشعر بالراحة بعد بتر نفسه. ولكن قد يكون الثمن باهظاً. فهناك من يقلع عينه أو يشوّه جسمه بصورة خطيرة. وقد مد عالم النفس «فافدتزا» هذا التصرّف الفردي الشاذ إلى تصرّفات الجماعات البشريّة، معتبراً أن عمليّات البتر الجماعيّة قد يكون المقصود منها المصلحة العامّة وخلاص الجماعة في هذه الحياة وفي الآخرة. ويقع اختيار الضحيّة على أفراد خارج الجماعة أو غير مقبولين كلياً ضمنها مثل سجناء الحرب، والعبيد، والأطفال الصغار، والمعوّقين. ونجد صدى لهذه النظريّة في قول «قيافا» عظيم الكهنة تبريراً للحُكم على المسيح: «أنه خير أن يموت رجل واحد عن الشعب» (يوحنّا 14:18). ونقرأ في رسالة بطرس الأولى: «تألم المسيح أيضاً من أجلكم [...]. هو الذي حمل خطايانا في جسده على الخشبة [...]. وهو الذي بجراحه شفينا» (1 بطرس 21:2، 24). والختان يُعتبر عند اليهود وسيلة للخلاص الجماعي.

5) من سيطرة القبيلة إلى سيطرة الأطبّاء والجيش

في المجتمعات التي فقدت العصبيّة القبليّة، تحوّلت السلطة إلى يد الأطبّاء في مجال الختان. فالأطبّاء يستعملون نفوذهم في المجتمع الغربي لإجرائه وخاصّة في المستشفيات التي تتبع الجيش. هذه هي النتيجة التي يمكن أن يتوصّل لها المتتبّع لظاهرة ختان الذكور والإناث في الولايات المتحدة.

ففي هذه البلد تزامن تزايد ختان الذكور والإناث مع تزايد عدد الأطبّاء وإجراء الولادة في المستشفيات. ففي بداية القرن العشرين، كان أقل من 5% من الأمريكيات يلدن في المستشفى. وفي العشرينات، ارتفعت هذه النسبة إلى ما بين 30% إلى 50% في المدن الأمريكيّة الكبرى. وفي الثلاثينات، أصبحت النسبة تتراوح ما بين 60% إلى 70% في المدن المختلفة. وفي نفس البرهة الزمنيّة، بدأ ارتفاع عدد الختان حتى تعدّت نسبته 50% من أطفال أمريكا. فإذا ولد طفل في البيت، يكون على الأهل إذا أرادوا ختانه أن يتوجّهوا أوّلاً للطبيب ممّا يتيح لهم فرصة للتفكير في ذلك مليّاً. أمّا إذا ولد الطفل في المستشفى، فالطبيب حاضر هناك وله السلطة العليا في المستشفى. وسيطرة الطبيب لم يقع ضحيّتها فقط الطفل الذي يختن، بل أيضاً الأم. فقد تزايدت حالات الولادة بالعمليّة القيصريّة، كما تزايدت حالات شق العجّان.

ويشار إلى أن الأطبّاء الذين يعملون في إطار الجيش الأمريكي ومستشفياته قد ساهموا كثيراً في انتشار ختان الذكور لاعتقادهم أن الختان يحافظ على صحّة الجنود ويبقيهم في حالة استعداد للقتال. ولذلك كانوا يفرضون الختان على الجنود تحت طائلة محاكمتهم عسكرياً. هذا وما زالت العائلات الأمريكيّة تقدّم سبباً لختان أطفالها بأن الالتحاق بالجيش يتطلب مثل تلك العمليّة رغم أنه لا يوجد أي قانون في هذا الخصوص. وتعطي «رومبيرج» عدّة شهادات من جنود أمريكيّين تم ختانهم قصراً من قِبَل هؤلاء الأطبّاء حال التحاقهم بوحداتهم، دون أن يتمكنوا من معارضة أوامرهم. وقد علق أحد الأطبّاء على تصرّف الجيش الأمريكي هذا بأن فرض الختان قد يكون سببه إعطاء فرصة للجرّاحين الشباب للتمرّن على العمليّات الجراحيّة. وهناك من يفسّر الختان في الجيش الأمريكي بأنه وسيلة لتدريب الجندي على العنف نحو الآخرين. فببتر جسمه وإيلامه يصبح أكثر عدوانيّة وأكثر استعداداً لكي يقتل ويجرح الآخرين دون أن يشعر بألمهم.

الفصل السادس
الختان وغريزة التسلط

إن كانت المواثيق الدوليّة تنادي بالمساواة وتشدّد عليها، فما ذلك إلاّ لأن غريزة التسلط هي من الغرائز المتجذّرة في أعماق الإنسان. ولا يمكن لهذه المواثيق حذف هذه الغريزة بل تحاول تهذيبها حتى لا تسود شرعة الغاب. وقد رأي علماء النفس أن الختان يدخل ضمن مفهوم غريزة التسلط التي تتبلور في عقدة أوديب وعقدة الخصي. وبعضهم ربط الختان بالحيلة وبالسادية.

1) الختان وعقدة أوديب وعقدة الخصي

حاول علماء النفس تفسير ظاهرة الختان بدراسة أساطير القبائل البدائيّة وتصرّفاتها، ومعاينة المرضى العقليين. فهم يعتقدون أن عوامل لاشعوريّة مختزنة في أعماق البشريّة تتحكم في الناس، من بينها ما أطلقوا عليه «عقدة أوديب» التي استلهموها من رواية «الملك أوديب» للروائي اليوناني «سوفكل» (توفى عام 406 ق.م) والتي تفيد بأن «أوديب» قام بقتل أبيه الملك وتزوّج من امرأته. وفي هذه الرواية عبارة تقول: «انك، دون أن تشعر، مرتبط بعقدة قذرة بمن تحبّه ولا تشك في مدى تعاستك».

و «عقدة أوديب»، حسب «فرويد» (توفى عام 1939) وتلامذته، هي مجموعة من الرغبات الغريزية الجنسيّة والعدائيّة لدى الطفل تجاه أهله. فالطفل يميل، لاشعوريّاً، كما في رواية «أوديب»، إلى قتل منافسه من نفس الجنس للاستيلاء على الجنس المخالف. وهذه العقدة تستحوذ على الطفل الذكر ما بين عمر 3 إلى 5 سنين حيث يتمسّك الطفل بشدّة بأمّه ويغار عليها ويطالبها بكل محبّتها باغضاً أبيه المنافس له عليها. وفي هذا العمر، ينمّي الطفل اهتماماً خاصاً بقضيبه الذي يمسّه باستمرار بحثاً عن اللذّة، دون أي حرج خارجي، أمام أمّه، وكأنه يريد أن يغريها جنسيّاً. إلاّ أنه يجبر على التحفظ في تصرّفاته أمام تهديد أبيه بقطع قضيبه. ويقوّي هذا الخوف في مخيّلته أن أمّه لا قضيب لها. فينمو عند الطفل شعور بالخوف من الخصي والخوف من الأب منافسه الذي يبغضه ويرغب موته لأنه قد يخصيه. ويقود هذا الشعور الطفل إلى التخلي عن علاقته الاستبدادية بأمّه. وتدريجيّاً يتقبّل الابن سلطة الأب والمحرّمات التي يفرضها عليه، ويتخلى عن أمّه، وينجّي قضيبه من القطع.

بداية من هذا المنطلق، يحاول «فرويد» توضيح المراحل التاريخيّة التي مرّت بها ظاهرة بتر الأعضاء الجنسيّة لتصل إلى الختان. فهو يرى أن في القديم كان الشخص القوي يقتل أو يخصي منافسيه. وأمّا اليوم فنكتفي بالتهديد بخصي الطفل. والختان يقع بين المرحلتين. فبقطع غلفة الطفل نهدّده بأنه إن لم يكف عن منافسته، فإنه سوف يتم قطع قضيبه كاملاً. وهذا ما أطلق عليه «عقدة الخصي».

وإذا تركنا نظريّة «فرويد» جانباً، وجدنا أن ختان الذكور قد يعني وسيلة لفصل الابن عن أمّه. فالرجل قد يحرم من ممارسة الجنس بعد الولادة لمدة قد تصل في بعض الأحيان إلى سنتين وهي مدّة الرضاعة. وهذا يؤدّي إلى انفصال في المنام بين الرجل والمرأة وتعلق الطفل بأمّه. فيقوم الأب بختان ابنه لفصله عن أمّه وفرض سلطته. وإن كان ختان الذكور علامة سيطرة مباشرة على الذكور، فهو أيضاً علامة سيطرة غير مباشرة على الإناث. فالأب الذي يختن ابنه يبعث بذلك رسالة للأم بأن باستطاعته فصله عنها وبتره دون إذنها.

ويشار هنا إلى أن مؤامرة الصمت إحدى وسائل إحكام السيطرة. فمن المعروف أن الحركات السياسيّة والإرهابيّة تعتمد على السرّية لتنفيذ خططها. وكذلك يفعل المغتصب مع ضحيّته عندما يكمّم فمها أو يتهدّدها بالقتل إن باحت بعلاقته معها. هذه المؤامرة نجدها في ختان الذكور. فالرجال الذين يعانون من متاعب جرّاء الختان يلاقون صعوبة في التكلم عنها، كما يرفضون الدخول في جدل حول الختان بينما يستمرّون في ختان أطفالهم. وهؤلاء بدورهم يأخذون موقفاً مشابهاً مع أطفالهم عندما يكبرون. نحن إذاً أمام مؤامرة الصمت: نرفض السؤال عن الختان كما نرفض الرد على أسئلة عنه. ويشارك في مؤامرة الصمت كثير من النساء. فأكثر الحركات النسائيّة التي تكافح ضد ختان الإناث ترفض أخذ موقف ضد ختان الذكور.

2) الختان بين المحبّة والعنف والساديّة

هناك ظاهرة مرضيّة تسمّى «المازوشية» نسبة إلى «ليبولد ساشر مازوش» (توفى عام 1895) الذي كان يتلذّذ بإيلام نفسه وبتر أعضائه. كما هناك ظاهرة معاكسة يُطلق عليها «السادية» نسبة إلى المركيز «دي ساد» (توفى عام 1814) الذي قضى 16 سنة في السجن و11 سنة في مستشفى للأمراض العقليّة. والمصاب بهذا الداء يتلذّذ بإيلام غيره.

وإن كنّا موضوعيين، فعلينا اعتبار ختان الذكور والإناث نوعاً من الساديّة والانتهاك الجنسي للأطفال. فهو يتم تحت ستار الدين والطب على أطفال دون سبب طبّي، وعامّة دون إجراء تخدير. ويزعم الخاتن بأن الطفل لا يتألم وأنه لا يسمع صوته، وهذا من ميّزات الساديّة. ويشار هنا إلى أن الخاتن اليهودي يقوم بمص قضيب الطفل بعد قطعه. وظاهرة مص دم الضحيّة معروفة عند علماء النفس. ولا يتورّع بعض الأطبّاء من التفوه بالتعليقات المنافية للآداب وهم يقومون بالختان أمام الممرّضات. ويتم الختان عامّة في حضور جماعة يظهرون الفرح من حول الطفل الذي يصيح ويحاول الإفلات من الألم. وهكذا يكون الختان ظاهرة ساديّة جماعيّة، يتلذّذ الحضور فيها بألم الغير.

وبطبيعة الحال يثير وصف الختان بأنه ابتذال جنسي تحفظاً كبيراً. فتنصح «رومبيرج» عدم اللجوء إليه لأنه قد يغضب البعض ويبعدهم عن قضيّة إلغاء الختان. وتذكرنا المؤلفة بقول المسيح: «لا تدينوا لئلاّ تدانوا» (متى 1:7-2). وهذا يعني بأنه علينا القبول بختان آلاف الأطفال من قِبل أناس يتمسّحون بالدين!!

3) الختان والحيلة والصوريّة

تحكي لنا التوراة أن أولاد يعقوب طلبوا من مغتصب أختهم دينة أن يختتن هو وذكور مدينته كشرط لزواجها منه. وبعد الختان، لم يكن باستطاعة رجال المدينة المدافعة عن أنفسهم بسبب الألم. فدخل أولاد يعقوب عليهم وأخذوا أختهم وقتلوا كل ذكر بحد السيف وسلبوا كل ثروتهم وسبوا جميع أطفالهم ونسائهم (التكوين 1:24-29). وذكرت جريدة «الخبر» الجزائريّة بتاريخ 23 أغسطس 1999 أن إسلاميين حضروا حفل ختان طفل في بلديّة «وزرة» وهم متنكرين. وبعد انتهاء تناول العشاء، شرعوا في قتل المدعوّين بالسلاحين الناري والأبيض فراح ضحيّة هذا الاعتداء 17 شخصاً من بينهم الطفل المختون ووالده.

ويرى كاتب روماني من القرن الرابع الميلادي أن موسى قد ختن غلطاً من طبيب. وحتى لا يحس بالنقص أمام اليهود، فرض عليهم الختان كأمر إلهي. ويذكر المؤرّخون أن ابن سعود قد لجأ إلى حيلة ختان الجنود الإنكليز الذين قاتلوا معه لتهدئة البدو، مستعيناً بفتاوى رجال الدين ومدّعياً أنه استولى عليهم كغنائم من الشريف حسين الذي كانوا يقاتلون معه.

وتلجأ الشابّات السودانيّات اللاتي مارسن الجنس قَبل الزواج لخاتنة تجري لهن الختان الفرعوني مقابل مبلغ لحفظ السر. كما تلجأ للحيلة العائلات السودانيّة التي لا ترغب في إجراء الختان الفرعوني دون أن يفتضح أمرها عند الناس. فتنظم احتفالاً وتدعو إليه الأقارب ويتم سرّاً الاتفاق مع الخاتنة بأن تجري على الفتاة عمليّة ختان بسيطة دون أن تبوح بذلك للمدعوّين. وقد يتم أيضاً ترك الفتاة غير مختونة مع الإعلان عن ختانها. وبطبيعة الحال، يكشف الأمر بعد الزواج، ممّا يخلق مشاكل عائليّة، إلاّ إذا كان الزوج من الطبقة المثقّفة الذي قد يعتبر ذلك مفاجأة سعيدة.

وفي الجيش الأمريكي يقوم بعض الجنود بطلب إجراء الختان عليهم، فيبقون في المستشفى العسكري بعض الأسابيع على حساب الجيش في حالة نقاهة بدلاً من الذهاب إلى ساحة المعركة. وقد أخبرني صديق بأن الجنود المسيحيّين في سوريا يتذرّعون بإجراء عمليّة الختان ليحصلوا على إجازة أسبوعين تهرباً من الجيش.

وقد يكون الختان وسيلة لتفادي الاضطهاد. ففي سفر أستير نقرأ أنه بعد تتويج أستير ملكة في فارس تحوّل عدد كبير من الناس إلى اليهوديّة خوفاً من سطوة اليهود (أستير 17:8) الذين انتقموا من أعدائهم بحد السيف (أستير 5:9). ويذكر المؤرّخ اليهودي «يوسيفوس» هذا الحدث قائلاً إن كثيراً من الشعوب ختنوا أنفسهم خوفاً من اليهود وهكذا استطاعوا النجاة. ويعتقد البعض أن اليهود أجروا الختان لغير اليهود في الولايات المتحدة وقاموا بالدعاية له حتى لا يكونوا المختونين الوحيدين هناك. وهكذا يصعب التعرّف عليهم في حالة عودة الاضطهاد ضدّهم كما حدث في الحرب العالميّة الثانية. ولنا عودة لهذه النقطة عندما سنتكلم عن الختان والسياسة.

الفصل السابع
الختان والعوامل الاقتصادية

1) الجذور الاقتصادية لنشوء وتطوّر الختان

يرى اليهودي المؤمن في الختان أمراً إلهياً موجّهاً إلى إبراهيم ونسله (التكوين 10:17). وتوارث المسلمون هذا الرأي عن اليهود، وبعضهم زاد عليه بأن الختان كان سُنّة لآدم وأولاده من بعده. ولعّل أولاده تركوه، فعاد الله وأمر إبراهيم بإحيائه. وللمؤمن أن يعتقد ما يشاء في العِلة الأولى للختان. أمّا علماء الاجتماع والمفكرون فإنهم يرجعون نشوء الختان وتطوّره إلى أوضاع اقتصادية.

تقول الدكتورة نوال السعداوي:

«إذا عرفنا من التاريخ أن الأب لم يكن حريصاً على معرفة أطفاله إلاّ من أجل أن يورثهم أرضه فإننا ندرك أن السبب الرئيسي لنشوء الأسر الأبويّة كان سبباً اقتصاديّاً. ومن أجل أن يحمي المجتمع مصالحه الاقتصادية فإنه يدعمها بالقيم الأخلاقيّة والدينيّة والقانونيّة. وعلى هذا فإن دراسة التاريخ توضّح لنا أن حزام العفة الحديدي وعمليّة الختان ومثيلاتها من العمليّات الوحشيّة ضد رغبة المرأة الجنسيّة لم تنشأ إلاّ لأسباب اقتصادية. بل إن استمرار مثل هذه العمليّات في مجتمعنا حتى اليوم إنّما هو أيضاً لأسباب اقتصادية. إن آلاف الدايات والحكيمات والأطبّاء الذين يثرون على حساب عمليّة ختان البنات لا يمكن إلاّ أن يقاوموا أيّة محاولة للقضاء على مثل هذه العادات الضارّة. وفي المجتمع السوداني جيش هائل من الدايات